«المستعمرة» سينما الضوء والصوت والإحساس الهامس

«المستعمرة».. سينما الضوء والصوت والإحساس الهامس!!

«المستعمرة».. سينما الضوء والصوت والإحساس الهامس!!

 لبنان اليوم -

«المستعمرة» سينما الضوء والصوت والإحساس الهامس

طارق الشناوي
بقلم - طارق الشناوي

لكل عمل فنى مفتاح، إنها النسبة الزئبقية التى لا تستطيع تحديدها بدقة. تختلف حسب طبيعة الفيلم. تحدد العلاقة بين الشريط والجمهور. (الترمومتر) هو المعلومة الدرامية. ما الذى تقدمه للمتفرج وما الذى تضيفه أنت؟.

السينما فى تطورها كلغة صارت تزيد من هامش الإيجابية، وكأنك تصنع بتلك الإضافات فيلمك أنت، تنازع المخرج على الفيلم. المعلومات عن الشخصيات والمكان والزمان تتسرب بانسياب بلا أدنى تعمد. تمنحك فقط بداية الخيط. هناك قدر من القتامة والضبابية والمأساوية تسيطر على الجو العام لفيلم (المستعمرة) لمحمد رشاد، والذى عُرض فى قسم (وجهات نظر) بمهرجان برلين.

الشريط بكل تفاصيله من أول تسكين الممثلين، عدد منهم يقف أمام الكاميرا لأول مرة. الأداء المفرط فى طبيعته أحد عناصر خصوصية الفيلم. يمهد لك أيضًا (أبجدية) التلقى. أنت داخل مصنع (الخردة) العتيق، حيث يجرى القسط الأكبر من الأحداث. المكن العجوز، الذى يتجاوز عمره الافتراضى وكأنه يئن من قسوة وتراكم السنين. التجاعيد تعيشها أيضًا الآلات الحديدية. الحركة المتعثرة والإضاءة الخافتة تسهمان فى تأكيد هذا الإحساس. البيت الذى نراه قبل رؤية المصنع مقبض فى كل تفاصيله. الأم الأربعينية، صارت أرملة، مصابة بما يُعرف شعبيًّا بـ(قدم الفيل)، معاقة حركيًّا بنسبة كبيرة، لا يسند ظهرها سوى ابنيها، الأول شاب فى مطلع العشرينيات، والثانى مراهق يصغره بنحو ١٠ أعوام، ومع رحيل الأب يلعب الابن الكبير دور الأب، وهكذا نراه فى بداية الفيلم وهو يعنف شقيقه الصغير. تكرار مشهد المرهم الذى يضعه الابنان تباعًا على قدمى الأم يؤكد أن المواجهة مستحيلة، نرى المرض المتضخم بضراوة أمام أعيننا، بينما سلاح المواجهة يبدو هزيلًا، وكأنك تواجه (ديناصورًا) متوحشًا بـ(نبلة) بدائية.

فى المشاهد الأولى نرى الابن المراهق عندما يعثر فى الدولاب على مطواة، يتأملها مسرعًا، ثم يُعيدها فى لمحة إلى الدولاب، بينما فى المشهد الأخير، وبعد هروب شقيقه الكبير من مطاردة رجال الأمن، يأخذها من الدولاب محتفظًا بها ليؤكد شفرة القراءة التى بدأها معنا، أننا سنضيف بخيالنا ماذا بعد أن صارت المطواة فى حوزته؟، حتى علاقته بتلك الفتاة التى نراها داخل المصنع ليست قصة حب تقليدية، بقدر ما هى تعبير عن احتياج الطرفين لعلاقة ما، لا نستطيع تحديدها بدقة، الشريط كله مجموعة من أسئلة بلا إجابات قاطعة، حتى رحيل الأب، وتعويض ابنيه بالعمل، لم ندْرِ بالضبط كيف رحل، ومَن المسؤول، وكيف تمت الصفقة، مساحة الغموض تجمع الدراما والإضاءة والموسيقى وحركة الكاميرا وأداء الممثلين فى بوتقة واحدة.

شعرت بعد مشاهدة الفيلم أن مستقبل السينما المصرية مشرق، مادمنا وجدنا هؤلاء المبدعين وهم يتقدمون بجرأة وشجاعة، يعثرون على معادلات إنتاجية خارج الحدود، تسمح لإبداعهم بالتنفس.

جميل جدًّا ومنعش أيضًا أن يبزغ اسم مخرج مصرى ليطل علينا من (برلين) يمنحنا قدرًا من الثقة فى القادم. رغم كل المعوقات، فإن هؤلاء المبدعين يستطيعون أن ينفذوا ولو من ثقب إبرة، وعلينا فى نفس اللحظة أن نسارع باحتضانهم، لم نقدم مع الأسف لهذا الجيل شيئًا إلا فيضًا من المعوقات والتوجسات، الدعم المادى أوقفناه قبل نحو ٩ سنوات، كان يتيح للسينمائى الموهوب ومن كل الأجيال ضوءًا أخضر للإسهام فى تنفيذ مشروعه، فيلم داوود عبدالسيد (رسائل بحر) نموذجًا.

ومع توقف الدعم وفى السنوات العشر الأخيرة ازدادت شراسة مخالب الرقابة، وغالبًا هناك قراءة متوجسة خارج النص، تنظر دائمًا بعين الريبة لكل ما هو خارج السياق العام والمحفوظات العامة، ومع الأسف صار هذا الصوت المتحفظ له مريدوه فى الشارع، والأغرب أن من بين المؤيدين والمروجين عددًا من المبدعين، الذين تبنوا نظرية باطلة بأن الفن المسؤول الأول عن حالة التردى والانفلات فى الشارع، ومنحوا المصادرة غطاء شرعيًّا.

يواكب الفيلم تعيين رقيب جديد للسينما يؤمن بالحرية، الكاتب الكبير عبدالرحيم كمال، الفيلم عُرض فى

(برلين) قسم جديد (وجهات نظر)، والذى يحتفى بالنظرة الجديدة للسينما فى العالم.

سبق أن شاهدت الشريط مرتين، الأولى قبل نحو العام (نسخة عمل)، والثانية بعد اكتماله وعرضه بالمهرجان.

نسخة العمل هى الشريط قبل الرتوش الأخيرة فى المونتاج والمكساج والموسيقى، ولكنها بالنسبة لعين المحترف تستطيع أن تقرأ من خلالها حالة الفيلم.

وتتأكد بعد إضافة الرتوش أننا بصدد مخرج صاحب رأى ورؤية، ومعه عدد من الموهوبين الذين يستحقون الحفاوة، وهم الممثلون أدهم شكر وزياد إسلام وعماد غنيم ومحمد عبدالهادى وهنادى عبدالخالق وهاجر عمر، وصوت محمد صلاح وأحمد عدنان. والموهوبون بزيادة المونتيرة هبة عثمان، ومدير التصوير محمود لطفى، وديكور ياسر الحسينى، وملابس سلمى سامى، وجرافيكس عطية أمين، وموسيقى طونى أوفروو.

فيلم مشرف يؤكد أن الإبداع، رغم كل الظروف المعاكسة، قادر على الحياة!!.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«المستعمرة» سينما الضوء والصوت والإحساس الهامس «المستعمرة» سينما الضوء والصوت والإحساس الهامس



GMT 21:11 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

“حكومة التعريفة” ولغز النفط وتسعير مشتقاته

GMT 21:11 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

فستان الرَّئيس «السَّابق»

GMT 21:10 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

ذاكرة شفوية منقوشة في جدار الزمن

GMT 21:09 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

ذاكرة شفوية منقوشة في جدار الزمن

GMT 21:08 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

قانون «الفجوة» ومرتكبو الجرائم المالية!

GMT 21:07 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

أهداف إسرائيل وحسابات سوريا الجديدة

GMT 21:06 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

تعقيدات المفاوضات الأوكرانية

GMT 21:05 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

تغيير الخطاب وتعديل المسار

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 20:43 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

مأساة أم مصرية تشعل مواقع التواصل بعد عرض أطفالها للبيع
 لبنان اليوم - مأساة أم مصرية تشعل مواقع التواصل بعد عرض أطفالها للبيع

GMT 21:44 2017 الأحد ,10 أيلول / سبتمبر

كيف تتحكمين في صرخات طفلك المحرجة؟

GMT 22:16 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 12:50 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ألوان الموضة لخريف وشتاء 2026 توازن بين الأصالة والابتكار

GMT 14:56 2023 السبت ,07 كانون الثاني / يناير

الطبابة في حوض الفولغا

GMT 09:27 2015 الثلاثاء ,14 إبريل / نيسان

موقع صحيفة "الحياة" يتعرض إلى القرصنة

GMT 12:39 2015 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

الأخطبوط يلجأ إلى حيل مثيرة للدهشة للإيقاع بالفريسة

GMT 07:35 2020 الجمعة ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

توماس باخ يؤكد أنهم مستعدون لإقامة أولمبياد طوكيو

GMT 22:11 2020 الثلاثاء ,29 كانون الأول / ديسمبر

دليل تنظيف اللابتوب

GMT 22:18 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

فالنتينو تخطف الأنظار بمجموعتها لموسم 2018

GMT 09:01 2022 الأحد ,03 تموز / يوليو

ماجد المصري ينتهي من تصوير فيلم خمس جولات
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon