بقلم: طارق الشناوي
فى اجتماع سياسى بحضور جمال عبد الناصر، بعد أن ضجّ السينمائيون بالشكوى بسبب تعثر الإنتاج، أحد كبار المخرجين قال (بِعت ساعتى حتى أنفق على أسرتى)، بينما رشدى أباظة قال (السينما همبكة).. كانت تلك الكلمة هى عنوان المرحلة، ودليلًا على التردى، وحقوق الملكية الفكرية محفوظة للفنان الكبير توفيق الدقن، ولا أتصورها سوى اختراع، وعندما تعجز مفردات القاموس عن التعبير تولد كلمات جديدة.
أطلقها توفيق الدقن فى مسلسل (بنت الحتة)، الذى عرض عام 64، والتى تعنى الكذب والتزييف (فنكوش) فى عرف هذا الزمن، أصبحت الكلمة مرادفة للدقن، وفوجئ أثناء تقديمه أحد العروض الكلاسيكية فى المسرح القومى أن مشاهدًا من فرط إعجابه هتف قائلًا (الله يا همبكة)، فقرر الدقن إسدال الستار، ولو تعرف عليه أحدهم فى الشارع قائلًا بسعادة وترحاب: (أهلًا همبكة)، لن يتورع على أن يرد عليه الكلمة بلكمة.
للدواء الشافى أعراض جانبية، والفيتامينات إذا أخذنا منها جرعات كبيرة تؤدى إلى مخاطر صحية. النجاح الطاغى قد يصبح بمثابة عقدة نفسية، إذا تجاوز حدود المسموح!!.
مثلًا الكاتب المغربى الراحل محمد شكرى، صاحب رواية «الخبز الحافى»، التى حققت شهرة استثنائية فى العالم، حيث ترجمت إلى 39 لغة، ولا تزال تقف فى الصدارة على مستوى أرقام البيع، كان (شكرى) يعانى من حالة النجاح المفرط التى صنعت جبلًا شاهقًا منع العيون من رؤية أى إبداع آخر، على الرغم من أنه كتب «الخبز الحافى» عام 72 وعاش بعدها 32 عامًا، محاولًا أن يقهر «الخبز الحافى» بأعمال أدبية تفوقها شهرة دون جدوى!!.
كان الشاعر السودانى الكبير الهادى آدم، الذى حقق شهرة عريضة فى العالم العربى قبل أكثر من 40 عامًا، بعد أن غنت له أم كلثوم قصيدة (أغدًا ألقاك)، إلا أنه أصبح يرفض أن يُلقى تلك القصيدة فى اللقاءات العامة، صار معاديًا لها. كان يشعر بأنها اختصرت كل دواوينه فى عدد محدود من الأبيات الشعرية، وكثيرًا ما كان يغادر منصة أى حفل يُدعى إليه لو أصر الحضور على أن يلقى إليهم «أغدًا ألقاك».
الغريب أن الشاعر اللبنانى جورج جرداق، الذى رددت له أم كلثوم قصيدته «هذه ليلتى» بتلحين محمد عبدالوهاب بعد أن كتبها مباشرة بتكليف من أم كلثوم، عاش أيضًا المأزق نفسه، وهو أن الناس لا يعرفون عنه سوى أنه صاحب «هذه ليلتى»، واكتشفت ذلك عندما التقيته قبل عشر سنوات فى إحدى الإذاعات اللبنانية، وبمجرد أن سألته عنها كاد أن يغادر مقعده محتجًا، ولم يعد إلا بعد أن أكدت له أننى سأنسى أنه كتب (هذه ليلتى)، وسأحدثه فى كل شىء ما عدا (هذه ليلتى)!!.
مأساة النجاح الطاغى تجسدت بقسوة مع صفية العمرى «نازك السلحدار» فى «ليالى الحلمية»، وصلت إلى نجاح جماهيرى غير مسبوق فى الشارع، ليطلق اسمها لأول مرة على أفخر أنواع البلح فى رمضان، بل إن ماركة من السيارات صار اسمها «عيون صفية»، ولا تزال صفية حتى الآن تحاول دون جدوى عبور حاجز «نازك»!!.
أتذكر أن الراحلة القديرة «سناء جميل» كثيرًا ما كانت تعزف عن إجراء الحوارات الصحفية بسبب تكرار سؤالها عن دورها نفيسة فى «بداية ونهاية»، وحفيظة فى «الزوجة الثانية». كانت تشعر بألم نفسى عندما ترى بعض الزملاء يحاولون اختصار مشوارها العظيم فقط فى (نفيسة) و(حفيظة).
تجاوز النجاح يصبح أحيانًا أصعب بكثير من مواجهة الفشل، ولدينا نجوم كانت آفتهم هى النجاح وليس النسيان، كما يقول أديبنا نجيب محفوظ «آفة حارتنا النسيان».. ويبدو أن حارة المبدعين آفاتها هى أن الناس على العكس لا يريدون أن ينسوا، حتى (الهمبكة)!!.