بقلم: طارق الشناوي
طموح كل فنان هو المشاركة فى مهرجان كبير مثل (برلين) وبديهى أنه كان أحد أحلام الممثل فوليديمير زيلينسكى على الأقل قبل نحو خمسة عشر عاما، وهو ما تحقق على نحو ما، ولكن بطريقة أخرى، فهو يشارك فى المهرجان بفيلم يلعب هو شخصيته الرئيسية ويقدم جزءا من مسيرته يحاوره النجم الأمريكى الحائز على الأوسكار شون بن.
قطعا زيلينسكى شخصية مؤثرة يحمل كاريزما يشعرنى بأنه لايزال محتفظا بداخله بروح الطفل كما يبدو فى العديد من مواقفه، كما أنه لم تغادره أبدا موهبة الممثل، وبنسبة كبيرة أشعر أن الفطرية فى التعبير تسبق عقله فى التخطيط، وهو ما استطاع توظيفه مع الأيام فى مسيرته السياسية بعد أن دفعته الأقدار لقيادة شعب يعيش أدق وأصعب لحظات لتحديد مصيره وإنقاذ هويته.
هذا هو بالضبط ما عبر عنه الفيلم الذى انتظره الجميع وشاهدته مساء أمس الأول، الشريط السينمائى الطويل التسجيلى، اقترب زمنه من ساعتين، ويحمل اسم (قوة عظمى)، إخراج مشترك شون بن وأرون كوفمان، عرض خارج المسابقة، فأصبح أهم من المسابقة، قبل المشاهدة تعتقد أن العنوان يرمى إلى أن تلك القوة تعنى روسيا التى تتحدى العالم، بعدها تتأكد أن المقصود هو أوكرانيا التى أثبتت أن العظمة فى قدرتها على المقاومة، كنت أخشى أن أرى فيلما دعائيا مباشرا، ووجدته محددا فى تبنيه بل إيمانه المطلق بحق أوكرانيا، لم نر وجها آخر للصورة، لكننا شاهدنا الرئيس والممثل الكوميدى صاحب روح الدعابة التى لا تغيب أبدا، كما أن المخرجين لم يستثمرا كثيرا مآسى الحرب، بقدر ما كانت الشاشة تنضح بالمقاومة، ولكن هل من المنطقى أن تلعب المهرجانات السينمائية هذا الدور وبكل تلك الكثافة.
أشعر بأن مفتاح العديد من تفاصيل حياتنا يكمن فى قدرتنا على ضبط الجرعة، هذا هو ما يغيب عادة عن ثقافتنا، واكتشفت أيضا أنه صار غائبا عن العديد من التظاهرات الثقافية فى العالم، وعلى رأسها المهرجانات السينمائية الكبرى الثلاثة (كان) و(فينسيا) و(برلين)، مؤكد أن تاريخ المهرجانات السينمائية هو بمثابة وجه آخر للصراعات السياسية فى أوروبا قبل حتى اندلاع الحرب العالمية، ولكن مع ازدياد وتيرة التناحر الأوروبى الأوروبى الذى بدأت معالمه فى الحرب العالمية الأولى 1914، وجدنا أن موسولينى فى إيطاليا هذا الرجل الفاشى يقيم أول مهرجان سينمائى عالمى فى وقت مبكر جدا عام 1932 وكانت السينما وقتها كصناعة لاتزال تحبو وتتلمس خطواتها بعد أن تعلمت النطق 1927، ولم تكن وقتها كل الأفلام ناطقة، حتى الشريط الناطق منها تتخلله بعض المشاهد الصامتة، لكنها السياسة بوسائل أخرى، وأيضا تستطيع أن تطلق عليها الحروب بوسائل أخرى عندما ترتدى قفازا ناعما، بدأ من وقتها الاستقطاب والتراشق بالأفلام، مثلا الفيلم الأمريكى (الديكتاتور) لشارلى شابلن، انتقد بضراوة هتلر فى عز صولجانه، فكان لابد أن تعلن فرنسا موقفها، فقررت الشروع فى مهرجان (كان) ليقف تماما على الجانب الآخر، إلا أن موعد المهرجان تأجل بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، نهاية الثلاثينيات كما كان مقدرا له، إلى منتصف الأربعينيات وتحديدا عام 1946، وعند تقسيم برلين إلى شرقية وغربية بإقامة الجدار العالى، وتواجد دولتين عبرت كل منهما عن موقفها بمهرجان يشبه ملامحها السياسية (لايبزج) التسجيلى فى ألمانيا الشرقية، و(برلين) الروائى فى الغربية، وطبعا كل منهما كان ينتقى ما يدعم موقفه، وبالمناسبة مصر منذ البدايات شاركت فى المهرجانين.
ولم تبتعد أبدا المهرجانات عن السياسة، حتى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الذى عقد عام 1976 أول مهرجان مصرى عالمى بمبادرة من الكاتب الصحفى الكبير كمال الملاخ، رئيس جمعية كتاب ونقاد السينما، الذى اكتشفت وأنا أقلب فى صفحات الماضى أنه كان يحلم بهذا المهرجان منذ الخمسينيات، إلا أن الدولة لم تتحمس فعليا إلا فى منتصف السبعينيات، عندما علمت أن إسرائيل تسعى لإقامة مهرجان سينمائى يحصل على موافقة الاتحاد الدولى للمنتجين لينال الصفة الرسمية، الذى كان يمنحها لبلد واحد فى الشرق الأوسط، فقررت مصر أن تصبح هذا البلد، وكان رئيس شرف المهرجان وزير الثقافة يوسف السباعى، وتأكيدا للوجه السياسى افتتح تلك الدورة التى احتضنتها الدولة رئيس الوزراء الأسبق ممدوح سالم، وهى الدورة الوحيدة فى عمر المهرجان التى افتتحها رئيس الوزراء.
تظل السياسة تعبر عن نفسها، حتى إن قرار المقاطعة الثقافية لإسرائيل، حرص سعد الدين وهبة، نقيب السينمائيين، أن يمنحه غطاء عربيا، ومنذ الثمانينيات مع بدء فعاليات إنشاء اتحاد الفنانين العرب الذى أسندت رئاسته أيضا لسعد وهبة، وجاء القرار بالإجماع يمنع مشاركة إسرائيل فى أى تظاهرة عربية، وما يؤرق إسرائيل أن الوجدان الكامن فى القطاع الأكبر من المثقفين العرب يرفض التطبيع وهى تسعى بكل قوة لمحاولة الاختراق، حتى المرة الوحيدة التى أقامت فيها جناحا داخل معرض الكتاب عام 1981، برغم أنه قرار سيادى من أنور السادات، رئيس الجمهورية، حاول الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور وقتها كمسؤول عن معرض الكتاب إلغاءه دون جدوى، واندلعت المظاهرات فى المعرض وتم توثيقها فى فيلم تسجيلى، وكان من التداعيات رحيل صلاح عبدالصبور بعد مناقشة حادة من بعض الأصدقاء، للنيل منه فى أغسطس 81، رغم أنه حاول كثيرا منع إقامة الجناح إلا أنه كان قرار دولة تجاوز صلاحياته وقدرته على المقاومة.
ويبقى السؤال: هل كانت الجرعة كبيرة؟ نعم زادت كثيرا فى مهرجان (برلين) عما هو مطلوب، لأن الحرب أيضا استمرت أكثر من كل التوقعات ومن الجانبين.
الذكرى الأولى للغزو الروسى لأوكرانيا تحل يوم 24 الجارى، لا أحد توقع استمرار الحرب على هذا النحو كل تلك السنوات، الجانب الروسى لم يفكر لحظة أن هذا الشعب يمتلك كل تلك المشاعر الوطنية التى تؤهله للمقاومة معتزا بانتمائه لتراب الوطن، رغم أن اللغة الروسية متواجدة فى الشارع الأوكرانى، يقابلها بقوة اللغة الوطنية، وهذا هو ما لاحظته مثلا فى العديد من الجمهوريات التى كانت تابعة لروسيا فيما كان يعرف بعد الحرب العالمية الثانية بالاتحاد السوفيتى، هناك رغبة للمقاومة حتى باللغة، التى هى أحد أسلحة المقاومة، الفيلم أيضا استخدم اللغة الأوكرانية، تميز باستخدام الموسيقى المصاحبة وتجنب تقديم جرعات كبيرة من المآسى، وانتهى بموسيقى مرحة تؤكد أن القادم أفضل وستعود البسمة، ويشارك الممثل الكوميدى السابق والرئيس الحالى فوليديمير زيلينسكى بفيلمه لأول مرة فى مهرجان (برلين)، وهو حلم أتصور أنه كان متجاوزا كل أحلامه!!.