بقلم: حنا صالح
«خذلت الحكومة اللبنانية شعبها، دمّرت الليرة، وأغرقت الناس في فقر مدقع سيتوارثه الناس من جيلٍ إلى جيل».. هذا بعض مما أورده تقرير أوليفييه دو شوتر المقرر الخاص للأمم المتحدة عن الفقر وحقوق الإنسان، في ختام جولة له في لبنان جمعته مع الرؤساء و9 وزراء، والتقى مواطنين من شرائح مختلفة من المناطق كافة، فاكتشف كل حقيقة المنظومة السياسية المتحكمة بالبلد.
وإذا كان دو شوتر قد خلص إلى تقريع المتسلطين من أنه «مذهلٌ التقصيرُ في المسؤولية على أعلى مستويات القيادة السياسية، ويُصدم المرء من انفصال المؤسسة السياسية عن الواقع، والاستمرار في تحفيز نموذجٍ قائم على الريعية وعدم المساواة والطائفية، سيغرق السكان أكثر في العوز»! فإنه منذ «17 تشرين» 2019 شهد لبنان ثورة شبابية شعبية سلمية، طالبت بإقصاء الطبقة السياسية عن المراكز التي تسلطت عليها بالفساد والتحريض والتبعية للخارج، ودعت إلى تقديمها للمحاكمة، لأن ذلك هو الممر الإجباري لاستعادة الدولة، والعودة إلى التزام الدستور وأحكامه، وطي صفحة نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي، الذي سهّل مقايضة مكاسب لمتسلطين ناهبين مقابل استتباع البلد للمشروع الإمبراطوري الإيراني!
تسلُّط «حزب الله» حوّل لبنان إلى بلدٍ منبوذ ورأس حربة ضد المنطقة؛ حكومته جثة تأخر دفنها، وبرلمانه معلق، والمسؤولون ارتضوا تجريدهم من مهامهم ومما منحهم الدستور من صلاحيات، فتعطلت الإدارة، وطال التهميش المؤسسات فباتت مصالح الناس خارج دائرة الاهتمام كما كل ما يتعارض مع الأجندة الإيرانية. حتى أمام موجة الحرائق في الأيام الماضية، انعدم وجود السلطة فيما كانت النار تُفحِّم مساحات خضراء من الصنوبر والسنديان والزيتون، فالمخطط يفترض البلد جغرافيا من اليباس... وأمام عزلة دبلوماسية تاريخية مع السعودية وبلدان الخليج، لم تتخذ المنظومة المرتهنة أي موقف رغم خطر القطيعة الاقتصادية وتداعياتها. إملاءات «حزب» طهران فرضت إدارة الظهر لمصالح لبنان مع العرب والغرب.
منذ التسوية الرئاسية في عام 2016 ومع حكومات سعد الحريري وحسان دياب ونجيب ميقاتي، أخذ «حزب الله» البلد بالعرض، مستفيداً من تغطية رئاسية أمْلتها حسابات التوريث. «شراكة» الآخرين معه كما «الحصص» لم تتِحْ لهم أي مصارحة، وربما لم يحاولوا، ليسود منطق أنه قضية إقليمية فوق قدرة لبنان، ولا قدرة داخلية على المعالجة. وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فوزير الخارجية بوحبيب في حديثه الاستفزازي المسرّب ذكر أنه طلب إلى الأميركيين أن يأتوا بـ«100 ألف مارينز يقبعوه والشمبانيا علينا»! أغلب الظن أن أطراف المنظومة السياسية ما توقعوا أن الأزمة التي سببها «الحزب» ستؤدي إلى هذه القطيعة، وبالتالي لا يُعوَّلُ على أي طرف ما دامت الأولويات مكاسب خاصة وحضوراً في معادلة السلطة، والدليل أن الانهيارات تتواصل والقطاعات الصناعية الأساسية بدأت تهاجر وما من خطوة واحدة لوقف الدوامة!
على مدار السنوات الماضية عجّل التواطؤ من انفتاح شهية مشروع اقتلاع البلد، ومع غياب سلاح الموقف وعدم بلورة البديل السياسي، فإن المناشدات والتحذيرات من نوع أن «إنقاذ الشراكة بات متعذراً من دون الحياد» ستبقى صرخةً في وادٍ، لأن آخر هموم استهداف محور الممانعة للبنان أن «يدخل لبنان متاهات دستورية»، كما تخوّف البطريرك الراعي.
الأكيد، أنه ما من جهة في السلطة تمتلك أهلية وطنية لإشهار سلاح الموقف بوجه تغول الدويلة، لتحدّ من التداعيات الكارثية للأزمة مع دول الخليج العربي. لكنّ وقفة متأنية أمام خطاب نصر الله الأخير، والذي ذهب فيه إلى «التظلم» و«التنصل» من المسؤولية عن أهوال القطيعة الدبلوماسية والاقتصادية، تبين أن هذا المنحى ما كان ليبرز بهذا الشكل لولا تلمس «حزب الله» تغييراً في مزاج الناس، واتساع الرفض لسيطرته واختطافه للدولة. هذا المنحى الأوّلي ما كان ليحدث لولا أن «17 تشرين» مستمرة ولم تفقد كل زخمها، وهي التي عمّقت وعياً وطنياً شمل كل البيئات اللبنانية بما فيها مناطق كانت تُعد مقفلة بوجه الهواء النقي.
رغم المراوحة التي رافقت دخول «ثورة تشرين» عامها الثالث، وركود الساحات لألف سبب وسبب، ذاتيٍّ أو نتيجة سياسات المتسلطين التي قامت على التجويع للتطويع، وحاصرت الناس بالقهر والعوز وشبح الموت، فإن الهدف الموضوع لطيّ تلك الصفحة والعودة بالبلد إلى ما قبل «17 تشرين» 2019 لم يحقق المطلوب. والأمر لا يعود إلى تراجع في تعسف «حزب الله»، أو ضعف في تسخير أجهزة أمنية وقضاء عسكري لملاحقة الثوار السلميين، بل لأن الثورة أدخلت إلى المشهد العام عاملاً سياسياً فاعلاً ومؤثراً هو الناس، الذين صدّعوا كل التحالف السياسي المتحكم في البلد منذ أكثر من 3 عقود، وأصابوا نظام المحاصصة الطائفي والغنائمي بشروخ، والحصيلة سقوط جوهر التسوية الرئاسية وتعذر ترميمها.
الأهم أنه من البداية عندما أنجز اللبنانيون بشكلٍ عفوي أول مصالحة في تاريخ لبنان، وكسروا حالات الكنتنة الطائفية والمناطقية، والتقوا من كل المناطق يوحّدهم الوجع، اتهموا الطبقة السياسية بالمسؤولية عن إذلالهم، وقدموا الدليل في الساحات على أنهم تجاوزوا العصبيات، وهم الضمانة لاستقرار البلد وسِلمه ولن يكونوا حطب مشاريع الآخرين للتسلط. وعلى مسافة أسابيع قليلة من الأحداث السوداء التي جرت في محلة الطيونة – عين الرمانة، ثابت أن السُّعار الطائفي والتحريض ومحاكاة الحرب الأهلية لم تنجح في إعادة الناس إلى مربعاتهم الأولية، لا بل من الأكيد أن هناك أكثرية موصوفة باتت أولويتها تحقيق تحولٍ سلمي في البلد.
الرهان كبير على المواطنين اللبنانيين، على العاملين لبلورة حالات سياسية منظمة، وعلى الساعين لجمع الحيثيات والقوى المناطقية والمدينية، كي يبتدعوا ميزان القوى الذي يعبّر أولاً عن قدرتهم في الدفاع عن أنفسهم وحقوقهم، بوجه حكم متسلط، لم يترك للناس لا اعتباراً ولا خياراً آخر، وكي يظّهروا أيضاً ميزان القوى الجديد والبديل، بوجه تسلط «حزب الله» ومريديه من المنظومة السياسية. وبهذا المعنى، فإن قوى التغيير على اختلافها، أمام تحدي العمل النشط لاستعادة فاعلية المواطنين، وليس أفضل من الحملات السياسية الانتخابية، لحشد الطاقات حول أهداف وعناوين سياسية، التقت حولها روافد من «17 تشرين»، أبرزها استعادة الدولة المخطوفة وبسط السيادة من دون شريك واستعادة العمل بالدستور وتأكيد استقلالية القضاء.
أكدت تجارب حكومات ما بعد «17 تشرين»، أن انتشال البلد رهن قيام حكومة مستقلة بصلاحيات تشريعية. تقود مساراً انتقالياً متدرجاً، بين أولوياته كبح الانهيار وتلبية المطالب الأولية للفئات الأكثر حاجة، واستعادة لبنان قراره وموقعه وعلاقاته مع أشقائه وأصدقائه، والقطع مع تجارب الاقتلاع والإلحاق والهيمنة.