بقلم:حنا صالح
أيام قليلة تفصل عن موعد 16 مايو (أيار) الباريسي، المضروب لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، للمثول أمام قاضية التحقيق الفرنسية أود بوريسي، بشبهات فساد وتبييض أموال. الموعد الباريسي محطة في مسار قد يسفر عن كشف جوانب عديدة من المنهبة اللبنانية. لكن أياً كانت التوقعات فالتداعيات بدأت في بيروت عندما طرح ميقاتي البت بمصير الحاكمية في جلسة للحكومة، ونُقل عن نبيه بري قوله إن «الاستحقاق الداهم هو تعيين حاكم لمصرف لبنان». إنهم يتحضرون لطي صفحة خطيرة أملتها التحقيقات الخارجية بعدما تجاهلوا ادعاء «هيئة القضايا» في وزارة العدل على الحاكم بتهم السطو على المال العام وتبييض الأموال، وطلبها حجز أملاكه وشقيقه رجا ومساعدته الحويك، وتوقيفه وإحالته إلى محكمة الجنايات.
الاستدعاء إلى باريس كان المفاجأة التي أعلنتها القاضية برويسي مباشرة بوجه سلامة يوم 16 مارس (آذار)، فور الانتهاء من الاستماع إليه في بيروت، ومحاصرته لمدة يومين بنحو 200 سؤال، عن تحويلات مالية بلغت في مجموعها 330 مليون دولار، تمت عبر شركة «فوري» المسجلة في الجزر العذراء، لتبيان كيف استقرت التحويلات في حساباته، لتقدم للقضاء الأوروبي طرف خيط عن أدوار «عصبة الأشرار» المصرفية المتهمة بارتكاب جرائم مالية في أوروبا. بالتأكيد لم يخطر ببال سلامة أن هذه الارتكابات ستفضح، وهو الذي أتحف اللبنانيين بأحاديث عن نزاهته وفوزه بالجوائز!
مريدو سلامة، من سياسيين ومنتفعين يحبسون الأنفاس، بعدما بلغهم الطلب الأوروبي كشف السرية المصرفية عن حسابات متصلة بالتهم المنسوبة إلى الحاكم، مع تفاصيل عن التحويلات التي تطال كثيرين! بعدما تردد أن التحقيق مرشح لمفاجآت بعد كنز معلومات قدمه المدعى عليه مروان خير الدين رئيس بنك الموارد كما آخرين... إلى ما يشاع عن «فوري» 2، متعلقة بعمليات مالية مشبوهة تمت من خلال شركة «أوبتيموم إنفست» التي يحيط الغموض بتحويلات غير نظيفة تولتها وتصل في مجموعها إلى 8 مليارات دولار. فبدأت ترشح ترويجات المريدين عن السيناريو الأفضل لتبرير غياب سلامة عن التحقيق، والذرائع الأفضل لكسب الوقت، رغم القناعة بأنه مهما حصل فالإجراءات لن تتوقف!
هنا يُنسب لجهات مصرفية وقضائية التأكيد أن ما ينتظر سلامة بات معروفاً، فإن اختار سيناريو الغياب سيتم ختم التحقيق وإصدار مذكرة توقيف غيابية بحقه وتعميمها على الإنتربول، وإن حضر فسيتم اتهامه مباشرة وإصدار مذكرة توقيف بحقه، وإحالة الملف إلى المحكمة. هنا ينشط الفريق القانوني بحثاً عن عناصر تسوية، لقاء كفالة مرتفعة كما حدث مع خير الدين. إنهم يبحثون شراء الوقت ويتدارسون الثمن لتخفيف العقوبة بعدما ثبّتت وقائع التحقيق التهم!
توازياً، إن أكثر ما يثير الريبة وقلق الناس المتروكة تنهشها المافيا المتجبرة، هو استمرار اعتكاف القضاء اللبناني عن القيام بالدور المناط به والمطلوب منه. فمن غير المقبول والمفهوم الامتناع القضائي عن التعامل بجدية ومسؤولية مع هذه الشبهات الكبيرة، علماً أن الأساس الذي استندت إليه التحقيقات الأوروبية هو ما قام به قاضي التحقيق جان طنوس قبل أكثر من سنة، وتم تعطيل دوره بتدخل سياسي بلغ حد تهديد رئيس الحكومة بالاستقالة ما لم يتم وقف التحقيق وطي الملف، فكان له ما أراد!
بالتأكيد لقضية الادعاء على سلامة ومحاكمته بتهم الفساد وتبييض الأموال أكثر من بعد. سيطال هذا الادعاء كل التحالف السياسي المصرفي الميليشياوي. كما أن المحاكمة المرتقبة ستكون محاكمة لهذا التحالف، لأنه لعقودٍ كان سلامة الذراع المالية للمنظومة السياسية التي تحاصصت واردات الدولة وسطت على ودائع المواطنين، الذين بين طرفة عين وإغماضتها انتقلوا من البحبوحة إلى الفقر المدقع! فيما سلامة، الذراع المالية التي هندست تنفيذ هذه السياسات، تحول إلى شخصية محورية يحاضر بالعفة والنزاهة، ونموذج للنجاح ما أهّله لأن يكون المرشح الدائم لرئاسة الجمهورية!
يروي د.غسان عياش، (نائب سابق لحاكم مصرف لبنان)، أن الذين أتوا برياض سلامة إلى الحاكمية قبل 30 سنة أبلغوه أن عليه تثبيت سعر الصرف وتسديد عجز ميزان المدفوعات وبعدها له أن يتصرف!
من البداية وضعوا قانون النقد والتسليف جانباً. وعوض أن تتكفل الخزينة معالجة عجز ميزان مدفوعاتها وسياسات الدعم وتثبيت سعر الصرف اللامنطقية، أوكلت هذه المهام إلى مصرف لبنان والحاكم الوافد من «ميريل لنش»، وقد استقدم معه حامل الأسرار رجا بوعسلي الذي باح أمام المحققين بما لديه. لافت للغاية حجم الصلاحيات التي جمعها بين يديه من ترؤس «الهيئة المصرفية العليا»، و«هيئة التحقيق الخاصة»، و«المجلس المركزي»، إلى صلاحيات تنظيم المصارف والوصاية على لجنة الرقابة.
وتصرف سلامة دون حسيبٍ أو رقيب، ونادراً ما انصاع لطلب البرلمان مناقشة قضايا النقد والتمويل والدعم والدين والفوائد، وهي قضايا محورية كلها بين يديه ويرتبط بها مستوى عيش اللبنانيين ومالية لبنان وموقع القطاعات الاقتصادية والخدمية. كان على الدوام الحاكم بأمره الذي وقف وراء أبرز عنوان غش لكل اللبنانيين هو: الليرة بخير، وهي لم تكن كذلك في أي يوم من زمن حاكمية سلامة!
من شبه المؤكد، أن الموعد الباريسي سيطوي 30 سنة من سيطرة رياض سلامة على السلطة النقدية، بإجماعٍ نادر من كل الطبقة السياسية. فهل ستفتح هذه الارتكابات الباب أمام استفاقة قضائية تكمل التحقيقات الأوروبية لتبيان مصير الأموال المنهوبة والجهات المسؤولة. من حق اللبنانيين المطالبة بحاكم من خارج منظومة التسلط كي تكشف مغاور اللصوصية التي كان المصرف المركزي مسرحها... فهل متاح تحقيق مثل هذا الحلم؟!