بقلم : فهد سليمان الشقيران
لو تأملنا في مشاريع نقد التراث العربية لوجدنا أن معظم كتّابها كانوا ثوريين، كانت لديهم نقمة بشكلٍ أو بآخر من أنظمتهم السياسية، البعض منهم سُجن أو حوسب أو لوحق. ولذلك تشترك تلك الكتابات ببعض الأفكار والمنطلقات، ومن أبرز تلك السمات، تقديس الديمقراطية، والهجوم على الملكيات في الخليج، وابتداع مفهوم «الإسلام النفطي».
ظلّ زمن طويل تهاجم فيه المنابر الناصرية والشيوعية والاشتراكية الدول الملكية، بل ويهاجمون المجتمعات الخليجية باعتبارها لم تعش الديمقراطية أو تطالب بها. يظنّ القراء الصغار في أول دربهم أن الديمقراطية بالفعل حتمية لاكتمال مفهوم الدولة، بسبب التواطؤ بين المثقفين العرب والغرب لشنّ الهجوم على مثال الدولة الملكية وتقديس الدولة الديمقراطية.
لو تأملنا في التجارب الملكية اليوم بعد مرور سبعين سنة على حفلات الهجوم والهجاء القومية والنضالية الرخيصة سنعرف أنها باتت قِبلة العرب والمسلمين للعيش والعمل. يأتي يوم التأسيس السعودي، ليضع النموذج الملكي كأنجح النظم في التجارب العربية الحديثة.
ولعل الفلاسفة الكبار هم من أنصف الملكيات وتخوّف بشكلٍ مبكر من حكم الشعب، وسأخص بهذه المقالة أفكار ديفيد هيوم حول الملكية والأحزاب وحكم الشعب طرحها في القرن الثامن عشر؛ لنتأمل في المخاوف والملحوظات واللمعات التي طرحها حول الحكم الملكي، ولننزع الغشاوة عن الأجيال التي تعتقد أن الصناديق والأحزاب هي التي تصنع التنمية ولم تنظر من حولها كيف آلت الأمور وانهارت في كل دول المنطقة تقريباً.
يضع هيوم بين يدي القارئ رأيه في الملكية وسلطة الشعب ضمن كتابه «أبحاث أخلاقية» آراء ثلاثة حول الحكم، وهي: المصلحة العامة، الحق بالقوة، والحق بالملكية. ينظر هيوم إلى الصراع بين الحرية والسلطة بأنه مشترك بين جميع الأنظمة بما فيها الحكم الشعبي؛ ولذلك يساجل بأنه «إن كان لدينا من داعٍ لأن نكون حذرين من الحكم الملكي، لأن الخطر أكثر بروزاً من تلك الجهة، فإن لدينا أيضاً ما يدعونا لأن نكون أكثر حذراً من الحكم الشعبي؛ لأن ذلك الخطر مرعب أكثر، وذلك يمكن أن يعلمنا درساً في الاعتدال في كل جدالاتنا السياسية». والهدف الرئيسي للحكم تأمين السلام والأمن بين الناس، يقول هيوم في مبحث «في الأحزاب بصورة عامة»: من المعروف جيداً أن سعادة الناس لا تكمن كثيراً في الوفرة، مثلما تكمن في السلام والأمن بين الناس الذين يمتلكونها. هذه النعم يمكن فقط أن تستمد من الحكم الجيد. ناهيك عن أن الفضيلة العامة والأخلاق الحسنة في الدولة المطلوبة كثيراً للسعادة، لا يمكن أن تنشأ عن مفاهيم الفلسفة الأرقى أو حتى عن تعاليم الدين الأشد صرامة، بل لا بد من أن تنبعث كلياً من تربية الشباب على الفضيلة وتأثير القوانين والمؤسسات الحكيمة. ويشنّ هيوم هجومه على قادة الأحزاب قائلاً «بقدر ما ينبغي تكريم واحترام المشرّعين ومؤسسي الدول بين الناس، بقدر ما يجب احتقار وكراهية مؤسسي الطوائف والفرق؛ لأن تأثير التفرقة مضادٌ بشكلٍ مباشر للقوانين؛ إذ تشكل التفرقة عبئاً على الحكم وتجعل القوانين غير مهمة وتولد أشد العداوات بين الناس من أبناء الشعب الواحد الذي يجب أن يمنح المساعدة والحماية المتبادلة لبعضه البعض».
ينظر هيوم بدقة في مقارنته للحكم الملكي وحكم الشعب، وبخاصة أنه عاش مخاضاتٍ خطيرة للتحول من الملكية، ومخاوف من الحرب الأهلية، حينها كتب «إن من الممكن تشكيل حكومة حرة، كحكم شخص واحد، ليكن دوقاً أو أميراً أو ملكاً له نصيب كبير من السلطة، ويشكل توازناً مناسباً لأطراف السلطة التشريعية الأخرى. هذا الحاكم الرئيسي يمكن أن يكون بالانتخاب أو الوراثة، ورغم أن الحالة الأولى قد تبدو لدى النظرة السطحية هي الأفضل، فإن نظرة مدققة أكثر ستكشف أن فيها إشكالات أكثر مما يوجد في الأخيرة التي تقوم على أسسٍ وأسباب دائمة لا تتغير. فتسنم العرش في حكمٍ كهذا، نقطة ذات أهمية كبيرة وعامة جداً بحيث لا تقسم الشعب كله إلى قسمين، وبالتالي يخشى من نشوب حربٍ أهلية، هي شر الأخطار، لدى كل شغور للعرش». فاستقرار العرش ضمانة للأمان من احتمالات أي حربٍ أهلية.
ثم يحلل ما يسميه «الحكم المختلط» في بريطانيا، أي المزج بين الجمهوري والملكي، ولكن حين تحتدم الأمور يتجهون للتاج (الملكي)، باعتبار الجانب الملكي مصدر الثقة والسلطة.
ثم يتحدث عن تجربة الحكم الفردي البريطاني مقارنة بنماذج الحكم الأخرى.. يكتب هيوم «ومع أن كل أنواع الحكم قد تحسنت في العصور الحديثة، إلا أن الحكم الفردي قد تقدم باتجاه الكمال؛ إذ يمكن التأكيد الآن، بالنسبة للحكم الفردي المطلق، ما كان يقال سابقاً في مدح الجمهوريات وحدها أنها حكم القانون وليس حكم الأشخاص وهي تقوم على النظام، المنهج والاستمرارية إلى درجة مدهشة. الملكية هناك مضمونة.. الصناعة موضع تشجيع، والفنون تزدهر، كما أن الحاكم يعيش آمناً بين رعيته، مثل أبٍ بين أولاده».
أكثر من مائتي سنة مرّت على تحليل ديفيد هيوم هذا، وكما تطوّرت الملكية البريطانية بمقارنة تحليله لها آنذاك في القرن الثامن عشر، كذلك تطوّرت ونمت الملكيات التي يسميها نسبة إلى التاريخ القديم «الشرقية»؛ إذ نمت الملكيات بنموذجها العربي الحالي في الخليج على التقنين، والمحاسبة، والضبط، والحرية المكفولة، إذ لم يعد للديمقراطية معنى حتى يعوّل عليها في الحكم.
إن الديمقراطية هي نتاج رحلة أوروبية كبرى مرّت بها المجتمعات؛ ولذلك توصّلت إليها كحلٍ لمشكلاتها؛ ولذلك نرى ماكس فيبر في مكانٍ ما من كتابه «روح البروتستانتية والأخلاق الرأسمالية» وفي حديثه عن الشرق، اعتبر أن نموذج التحديث الغربي وجد نجاحه في الغرب ولم يجده في الشرق، وبخاصة في معرض تحليله للصين؛ لذا فإن عمل المثقفين لتعميم النموذج السياسي الثوري غير مجدٍ ولا يعبر عن حكمة ولا عن رزانة.
إن نموذج الحكم الملكي هو أنجح النماذج في التجربة العربية الحديثة، وقد تطوّرت النظم والأفكار داخل النظام الملكي ليكون للقانون سيادته، وللاقتصاد قوته، وللإنسان حريته، وللفاسد محكمته؛ مما جعل الحكم الملكي أنجع وأشد قوة وتماسكاً من أقوى التجارب الديمقراطية الشرقية؛ ولذلك على الأجيال الخليجية الشابة أن تعلم أن النموذج الملكي في الحكم له جذوره الفلسفية والعلمية وله أنصاره في شتى المدارس، بل لهذا النموذج حججه ومقولاته.