بقلم : فهد سليمان الشقيران
من الرائع أن يستمر الحديث عن الإسلام السياسي وجذوره وأخطاره؛ بخاصةٍ ونحن نتابع عن كثب مرافعة «نهاية الصحوة»، وهي منقوصة وقاصرة. فالصحوة تتلوّن وتتجدد، فهم يلبسون لكل حالةٍ لبوسها؛ بعضهم ركب موجة التنمية مدّعياً الاقتناع بها، وآخرون اتجهوا نحو البودكاست التنموي أو الرياضي، أو عوالم الطبخ، أو فنون السفر والسياحة، ولكن داخل كل ذلك النموذج رسائل مبطنة يعرفها من خبر الإسلام السياسي وأدواره وأدواؤه. يعود الحديث بشكلٍ قوي مع الذكرى الأليمة لـ«تفجيرات الحمراء» في 12 مايو 2003، وهي رصاصة إعلان بدء الحرب، لقد كان الإرباك قوياً، ولكن ثمة صيحة في الصحراء من المنذرين بخطورة الوضع ووجوب مباشرة الحرب، وقد كانت حرباً شرسةً مربكةً غير مستعَدٍّ لها.
منذ بدء أول عملية إرهابية احتارت وسائل الإعلام كيف يمكنها وصف أولئك القائمين بالعمل، وكيف يمكن وصف العملية. لفظة «الإرهابي» لم تكن دارجة إلّا فيما يُتداول من مواقف إسرائيلية ضد عمليات الفلسطينيين، وربما اطلع بعضهم على تاريخها الإشكالي في زمن الحروب وصراع الأضداد في أوروبا تحديداً وفرنسا على نحوٍ أدق. منذ أحداث 11 سبتمبر شكَّلت العملية حرجاً للعرب والمسلمين؛ لم يختر أحد منهم التوصيف الدقيق، ثمة عمليات قديمة حدثت في السعودية، مثل أحداث احتلال الحرم على يد جهيمان العتيبي وحركته التي تعرف بـ«الجماعة السلفية المحتسبة»، ومن ثم تفجيرات أخرى كان أعنفها استهداف «حزب الله الحجاز» عشرات الأميركيين في الخُبَر عام 1996. ولكن بعد 11 سبتمبر (أيلول) بدأ الموضع يفرض نفسه. استغل تنظيم «القاعدة» أحداث فلسطين والانتفاضات المتتالية منذ أواخر التسعينات حتى عام 2000 لبعث مشاعر المسلمين تجاه قضيته. ليس سراً أن جمعاً غفيراً من المسلمين والدعاة كانوا يؤيدون ما قام به أسامة بن لادن ومعاونوه في «غزوة مانهاتن».
المسافة بين 2001 و2003 كانت قصيرة، لم تكن المواقف ضد تنظيم «القاعدة» حاسمة، حاول عتاة الكتّاب والإعلاميين خوض المعركة ضد ذلك الزحف الأصولي المخيف، مارست مجموعة من الصحف، منها جريدة «الرياض»، وصحيفة «الوطن»، وكذلك قناة «العربية»، وصحيفة «إيلاف» الإلكترونية، وصحيفة «الشرق الأوسط»، دورها في التوعية والنقد. كلها قدمت مواد زاخرة بالتفنيد للحجج الإرهابية، وطرحت الخطاب الإنساني المدني، ولم تكن المعركة سهلة.
لم تكن الحكومة آنذاك قد رست على تسميةٍ محددة، بل ترددت بين أكثر من وصف، ولكن بعد استشارات اقترح رجل دين سعودي أن يطلق عليهم وصف «الفئة الضالة»، وهذا لم يُرضِ الكثير من الكتاب آنذاك، كيف يمكن وصف القَتَلة بأنهم مجرد «فئة» ضلّت الطريق؟!
المشكلة أن الوصف أحس البعضُ أنه ينطلق من مقولة لعلي بن أبي طالب: «هؤلاء إخواننا بغوا علينا»، وهو أثرٌ ضعيف الإسناد لدى المتخصصين بالرواية. ولكن في الوصف تلطيف لظاهرة «القاعدة».
آنذاك كانت قناة إخبارية خليجية شهيرة قد أخذت جماهيرية لدى قطاعٍ عريض من المسلمين المتحمسين، وهي تأسست على آيديولوجيا «الإخوان المسلمين»، ومنذ تفجيرات نيروبي ودار السلام في 1998 وهي تُجري لقاءات وحواراتٍ مع أسامة بن لادن، وتقدمه على أنه صاحب حق يدافع عن القضية الفلسطينية، وتقدمه للمسلمين على أنه المنقذ لضحايا الاحتلال الإسرائيلي، وهو «الشيخ» القادم من «الجزيرة العربية» لإحياء روح «الجهاد» لدى المسلمين.
كل تلك الربكة الفكرية والمفهومية عاشتها المنطقة ومنها دول الخليج، إذ لم يكن رجال الدين على درايةٍ واضحةٍ بكرة النار التي تحرق الأخضر واليابس، ولم تكن الصحف بخطابها العقلاني المختلف مع الخطاب السائد بوارد أن تكتسح جماهيرياً، سرعان ما وصفوا جريدة «الوطن» الوليدة بأنها «صحيفة الوثن»، وقناة «العربية» بـ«العبرية»، وأخذت الجموع نحو التجييش العنيف الذي أثمر انضمام عشرات الشباب إلى صفوف تنظيم «القاعدة»، ودخلت الدولة في صراعٍ عنيف دموي مع التنظيم راح ضحيته عشرات رجال الأمن الشجعان، ولم تنتهِ المعركة إلا بعد عمل أمني ضخم قادته الحكومة بأذرعها وأفرعها؛ من المباحث العامة إلى الحرس الوطني وحرس الحدود والدفاع المدني والشرطة، وغيرها من الإدارات الأمنية، كلها تعاضدت من أجل هذا النجاح المهم بإنهاء «القيادة المركزية» لتنظيم «القاعدة» في السعودية ونزوحها نحو اليمن.
كانت «الصحوة» هي الغطاء والرافعة والمنبع للتنظيم الإرهابي. ثمة من حاول فصل «الصحوة» عن «القاعدة»، وهو خطاب قاده سفر الحوالي وسلمان العودة، ولكن الحقيقة الساطعة أن «الصحوة» هي الذراع السياسية لتنظيم «القاعدة».
لا بد من تحديد وسحق المؤثر الفكري، فهو الأساس في شرارة العمل الإرهابي، وبقية المؤثرات تأتي بمرحلةِ تابعٍ، ووضع خطة كاملة يتم اتّباعها بين المؤسسات ذات الاختصاص، وبخاصة منها الدينية، بما يتبعها من منابر ومطبوعات وأفراد لديهم صلاحية الحديث وتوجيه المجتمع، والتعليم ومؤسساته وما يقع على عاتقه من مسؤوليات تأليف المنهج، وتأهيل المعلمين والرقابة على أفكارهم، وطرق إيصال المعلومة في أثناء شرحهم للنصوص، وبخاصة منها الدينية، أو الأحداث السياسية، لأنها تسهم في خلق مناخات مأزومة قد تضاعف من أعداد المستعدين للتجنيد من التنظيمات المتطرفة.
حين جاء الأمير محمد بن سلمان أدرك بوعيه الحاذق وفطنته كيف انبنى الإرهاب، وهذا مسرود في حواراته الكثيرة، ثمة أذرعة ومنابع وكتب ومفاهيم انطلق منها الإرهابي، ولذلك لا بد من أن تكون الضربة مزدوجة، وأن يُكشف توزيع الأدوار بين الصحويين والإرهابيين، وهذه هي نقطة قوة الحرب التي شنّها الأمير على الإسلام السياسي كله.