بقلم : فهد سليمان الشقيران
ارتبطت البراغماتية بالقطبية السياسية؛ وهذا ما فتحت السجالات عليه المسلسلات الأخيرة المتطرقة للعمليات الجهنمية التي تورطت بها جماعة الإخوان المنصاعة لتعاليم سيد قطب المبشرة بالشر والقتل والحرب؛ فهو مؤسس «تنظيم 65»، والمخطط لعمليات لو نفذت لكانت عواقبها وخيمة على مصر لعقود طويلة، ومن ذلك مشروع تفجير القناطر الخيرية.
سيد قطب أسس لبراغماتية سياسية ودينية متناهية وعقيدته هي التي جعلت تنظيم الإخوان مفرخة لجماعات التوحش والإرهاب بالعالم. لذلك احتفيتُ كثيراً بصدور كتابٍ عن مركز المسبار للدراسات بعنوان ««انقلابات الإخوان التنظيمية: قطبية الفكر وبراغماتية السياسة» (الكتاب الثالث والثمانون بعد المائة، مارس (آذار) 2022).
في مقدمة الكتاب، فإنه يتناول «الانقسامات الإخوانية التي تصاعدت في العامين الأخيرين، والانقلابات التي بدأت منذ 2014 داخل الجماعة، فقيَّم حقيقتها، وناقش أسباب ظهورها، وعلاقتها بالصراع على مكاسب الشتات، وانتهى بملاحظة سيادة التيار القطبي المتطرّف على جناحي التنظيم». ويمكن عرض الخلاصات للدراسات التي تضمنها الكتاب، مستفيدين من عرض هيئة التحرير للكتاب.
فاتحة دراسات الكتاب، تناولت تاريخ الأزمات في الجماعة؛ وتتبعت محددات الخروج من التنظيم وتحوراته، عبر التمييز بين الانشقاق والانفصال والإقالة. عرّفت الدراسة المسميات المتعلقة بالأزمة الراهنة، سواء «لائحة 2009»، والأمانة العامة الملغاة في 2021، واللجنة الإدارية العليا التي شرعنها محمود عزت، والرابطة التي تشكلت في تركيا، بديلاً عن مكتب الإرشاد، ولجنة إدارة الجماعة التابعة لإبراهيم منير، منذ أغسطس (آب) 2021. وثّقت الدراسة لجوء «الإخوان» في أزمة لجنة محمد كمال العليا في 2015، لتحكيم الإخواني العراقي محمد أحمد الراشد، الذي انحاز لمحمود عزت، وزعم أن «الحق مع محمود عزت»، وأن كل «الإخوان» ملزَمون بطاعته وبيعته؛ مما يكشف تحجّر الفكر الإخواني عند مسائل البيعة، ورفض الوطنية. ولم تُنقَض أزمة كمال، سوى بموته وسط اتهامات إخوانية متبادلة بأنّه تم التخلص منه تنظيمياً.
تابعت الدراسة أزمة محمود حسين منذ سبتمبر (أيلول) 2021؛ والتي بدأت باعتقال محمود عزت، واستشعار إبراهيم منير؛ القائم بأعمال مرشد «الإخوان»، أن أمين الجماعة محمود حسين يتلاعب به، فألغى الأمانة العامة، وشكّل لجنة لإدارة التنظيم؛ وحلّ المكتب الإداري لشؤون التنظيم بتركيا في يوليو (تموز) 2021، وفضح الفساد والمخالفات المالية والإدارية التي تطال محمود حسين وجماعته، وشكّل لجنة إدارة في تركيا، وأجرى الطرفان انتخابات انتهت بخسارة جبهة حسين. فردت مجموعة حسين بفرض رجالها الإعلاميين الذين أعلنوا إعفاء منير من منصبه، ورفضوا تسليم الموقع الرسمي للجماعة «إخوان أون لاين».
انهارت بالخلاف المقولات الكبرى للتنظيم المحترف، وانجرفت معها الثقة القاعدية بالقيادة الإخوانية، وتبددت مزاعم الأخوة، وانفضح وهم التجرّد وبان الفساد.
في الحركات المتطرّفة؛ لا يستطيع تيارٌ هزيمة خصومه إلا باحتكار التصلّب في التنظيم، والمغالاة في التطرف فكرياً وعقائدياً. من هذا المنطلق، فَرض المنهج القطبي نفسه على تيارات الإسلاموية السياسية والعنفية، خصوصاً مع انقضاء مرحلة «صبره الاستراتيجي» الذي تخفى فيه. فبعد عقود من النقد الناعم للتيار، أُعيد تركيب أفكاره، وتظهير شخوصه ليكونوا في قيادة مرحلة المواجهة، وجرى بثّ أفكار مؤسسه، وإلباسها ثياباً جديدة، بأسماء «المقاومة» و«الحقوق»، تولّد عنها جماعات عنفية مثل «حركة حسم» (2015)، ولواء «الثورة»، وغيرهما.
ولئن أدت المنافسة في التطرف إلى خلاف داخل المتطرفين، وانقسمت الجماعة إلى قسمين، بمتحدثين رسميين، وموقعين إلكترونيين، فإنهما حافظاً على الجذر القطبي العنفي التكفيري للدولة والمجتمع.
يشير الباحث ماهر فرغلي، إلى أن رأس الجماعة نفسه؛ أعاد تعريف السلميّة على أنها «ما دون القتل»! وأصدرت الجماعة كتاب «فقه المقاومة الشعبية» الذي عُدّ بمثابة تأسيس جديد لعنف الجماعة، دمجت فيه أفكار دفع الصائل، وأدبيات التثوير العنفي، وكراهية مؤسسات الدولة. لقد أدى انهيار الخطط الإخوانية أمام يقظة الدولة، إلى التفكير في كمونٍ قطبي استراتيجي في العام 2021، يستهدف إنشاء عمل مسلح ينطلق من خارج مصر، حسبما أعلن قيادي في الجناح المسلح عام 2021.
تتبع الباحث والمفكر محمد البشاري، الانقسامات الإخوانية المتتابعة في الأردن، والجزائر، وليبيا، وتونس، والسودان. وطرحت دراسته تأثير انقسامات الحركة الأم، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، على فروعها الخارجية في الدول العربية وأوروبا، ورأت أن هشاشة المركز وتصدع الفروع الأخرى سوف يؤديان إلى تقوية التيارات المتطرفة فكرياً، وتفعيل التقية السياسية والنهج البراغماتي؛ وباسم حرية التعبير سوف تتسع مساحات المناورة بين الدعوي والسياسي.
في شهادة من الداخل، نقلت دراسة المناهج التربوية الجديدة المعتمدة في الجماعة، فدرست عملية التجنيد، وصناعة الفرد داخلها، من خلال طريقة اختياره، باستهداف المرحلة العمرية بين (10 - 21) سنة، وإغراقه بالأنشطة والجلسات التربوية الأسبوعية، التي تحرص الجماعة على تمتينها لإحاطة أفرادها بسياج يعزلهم عن المجتمع، حتى تستطيع تشكيل شخصيتهم، ثم بالتعرف على المناهج التربوية التي تُلقَّن، والقناعات التي تُرسَّخ، فتتبعت الدراسة المراحل الزمنية المختلفة للتعبئة الإسلاموية الإخوانية، فعرضت المناهج التربوية قبل وصول الجماعة للسلطة عام 2013، حيث اعتمدت في الخمسينات حتى السبعينات على تفسيرات سيد قطب لبعض السور القرآنية، وكتب المودودي المترجمة. وفي بداية القرن الحالي كانت كتب مبادئ الإسلام للمحب، ورحاب الإسلام للمؤيد، ونور الإسلام للمبايع. وبعد سقوط حكم الإخوان بعد «ثورة يونيو (حزيران)»، عدّلت الجماعة في الكتيبات التربوية، وزعم الباحث أنه «حصل على أنموذج لجزء من منهج شهري»، وبتحليله وجد أنه يتضمن بعض الفقرات من تفسير سورة القلم، مأخوذ بتصرف من تفسير «الظلال» لقطب، وتمجيد لأدب المحنة والسجون وغيرها. وركزت الدراسة على آليات التربية العسكرية للأفراد بعد سقوط الجماعة، وتبنت إصدارة «فقه المقاومة الشعبية»، توصيفات متطرفة تتبنى شرعنة داعشية للعنف، تستحل دماء رجال القانون. وقامت إدارة «التدريب» بتنظيم عمليات تدريبية، لتعميق شرعنة العنف، كان الخلاف في درجة العنف، وأسلوب إدارة الجماعة واضحاً، ولكنّ الاتفاق بين أجنحتها على وهم أن أفكار الجماعة هي الدين ذاته.
تطرق الكتاب إلى إعلام التنظيم الإخواني، وتأثره بالانقسامات المزعومة (2013 - 2021)، فدرس أدواته وأشكاله وتحوراته الإعلامية على مستوى خطاب الذات والآخر، وما مر به من إعادة هيكلة تستهدف تسهيل عمله في الخارج، وتحالفاته المؤقتة وتوفير واجهة لحركة المال وتوجيه الموارد المالية إلى خارج مصر، تُمكِّن التنظيم من بناء غرف تستهدف فكرة الدولة، وتثير السخط، وتحاول تجنيد الناشئة.
توضح الدراسات تلك حول الإخوانية القطبية، أن التنظيمات مهما تعرضت لتصدعات داخلية أو انشقاقات فإنها تستطيع التواؤم والتأقلم مع السجالات الجديدة والمعارك؛ ولذلك لا يمكن الحديث عن «الإخوان» وتاريخ مفاهيمهم من دون أخذ «البراغماتية» العالية بعين الاعتبار.