عبد الرحمن الراشد
المنطقة الآمنة التي رسمتها تركيا داخل حدود سوريا لها جملة أهداف؛ أولها أن تجعل الحدود آمنة للأتراك، ووسيلة للتخلص من اللاجئين السوريين بالقوة، وأن تجعل من اللاجئين حاجزاً يحميها من المسلحين الأكراد. المنطقة ستكون خطرة على سكانها، وغالبيتهم أكراد سوريون. المنطقة محل الاقتحام العسكري أقل من عمق ثلاثين كيلومترا إلا أنها تنذر بأن تكون بداية فصل جديد من الصراع داخل سوريا. فأنقرة في أكبر عملية تهجير معاكسة في التاريخ المعاصر تخطط للتخلص من نحو مليوني سوري معظمهم من العرب، وإجبارهم على الاستيطان في مناطق إثنية مختلفة معظمهم أكراد، مما ينذر بحروب عرقية جديدة. والمستفيدون من الهندسة الاجتماعية هذه، أولهم نظام دمشق حيث سيقوى مركزه التفاوضي ويتخلص من عدوين محليين في آن، وتركيا بما تفعله بالسوريين ستسهل على إيران عندما «تكب» المليونين سني عربي في مناطق كردية سنية في شمال شرقي سوريا، ضمن عملية التطهير الطائفي التي يمارسها الإيرانيون و«حزب الله» في الجانب الآخر من سوريا. التخلص من مليوني سوري هدية لإيران التي كانت تخشى من الضغوط الدولية، بإعادة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم التي أجبروا على النزوح منها.
مهندس العملية، الرئيس التركي، قرر منذ فترة أن يتخلى عن مواقفه الأولى وينسق نشاطه في سوريا مع حليفيه الجديدين إيران وروسيا، وما المنطقة الآمنة التي قررها إلا جزء من التفاهمات الأخيرة بينه وبينهما. وهذه ليست المرة الأولى التي تستخدم تركيا اللاجئين السوريين؛ فقد كانوا ورقة في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي، والآن تستخدمهم بوصفهم ثوارا ليحاربوا عنها ضد مسلحي الأكراد في المناطق الحدودية. وقد يبدو غريباً أنه في الوقت الذي يتم تحذير لبنان من إعادة اللاجئين السوريين على أراضيه إلى سوريا، فإن المنظمات الأممية لم تفعل الشيء نفسه مع تركيا، وهي البلد الأكثر غنى واستيعاباً وارتباطاً بالحرب السورية.
أما الولايات المتحدة فقد كانت دائماً غير متحمسة للحرب في سوريا، لا تعتبرها في دائرة مصالحها العليا إلا بمقدار تنافسها الإقليمي مع روسيا، أو رغبتها في مواجهة التمدد الإيراني، لكن ليست سوريا بذاتها شأناً مهماً في أولويات سياستها الخارجية بخلاف العراق. وفي حساباتها الضيقة قدمت واشنطن الدعم للمعارضة السورية المسلحة لإلحاق الأذى بالروس وميليشيات إيران خلال سنوات الحرب، وفي الوقت الحاضر تراجع كثيراً هذا الدعم، وتراجع كذلك نشاط المعارضة التي خسرت معظم مناطقها.
أما إسرائيل فإن تدخلها العسكري محصور بالقصف الجوي، ومن المستبعد أن تتدخل ما دام النزاع الجديد خارج الخط المرسوم وراء العاصمة دمشق وحتى الجولان، الذي يعتبره الإسرائيليون منطقة عمليات عسكرية لهم.
الحرب نفسها في سوريا خفتت ولم تصل بعد إلى خاتمتها، تبقت فيها فصول، من بينها الجرح الذي فتحه الأتراك في المنطقة العازلة في داخل سوريا. وقد تتحول المنطقة الآمنة إلى مصيدة للأتراك وحلفائهم لاحقاً. بوجود التوتر المحتمل مع إغراق اللاجئين المجبرين على الانتقال في هذه الأراضي المعدومة من الخدمات ومصدر العيش سيعود الصدام من أجل البقاء، وتعود معه التنظيمات المتطرفة إلى الحياة بما فيها «القاعدة» و«داعش»، وبذلك تستمر سوريا مسرحاً للقتال الإقليمي والدولي، وسيعود الأميركيون لاحقاً إليها في لعبة صيد الإرهابيين، وتستمر الفوضى الخطيرة على الجميع والمنطقة والعالم.