عبد الباري عطوان
بعد يومين من بِدء توغّل القوّات البريّة التركيّة في شِمال شرق سورية، ما زال الموقف يتّسم بالغُموض، ولكنّ الشّيء الوحيد الواضح هو أنّ الدّعم الوحيد الذي حظِيَت به هذه الخطوة حتّى الآن، جاء من دولة قطر، وفي مُكالمة هاتفيّة بين وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، ونظيره خالد محمد العطية.
هُناك نظريّتان تتردّدان حول الظّروف الإقليميّة والدوليّة المُتعلّقة بهذا الهُجوم:
النظريّة الأُولى: تقول إنّه جاء بعد توافق بين روسيا وأمريكا وسورية وإيران وتركيا، وهي الأطراف الرئيسيّة المعنيّة بالأزمة السوريّة، وبهدف “تحجيم” دور الأكراد، ولجْم نزَعاتِهم الانفصاليّة، وتطمين الجانب التركيّ على أمنه القويّ، ويستند أصحاب هذه النظريّة إلى “نُعومة” ردود الفِعل الروسيّة، وتعبير يوري أوشاكوف، نائب الرئيس الروسي عن “تفهّمه” لمخاوف تركيا، وتأكيده في الوقت نفسه على ضرورة الحِفاظ على وحدة الأراضي السوريّة.
النظريّة الثانية: تتحدّث عن نصب الأمريكان “مِصيدة” مُحكَمة للرئيس رجب طيّب أردوغان، بالاتّفاق مع الروس، من خِلال إفساح المجال أمام الهُجوم، وإزالة عقبة القوّات الأمريكيّة التي تقف في طريقه تمامًا مثلما حدث مع الرئيس العراقيّ صدام حسين، ولقائه مع السفيرة الأمريكيّة إبريل غلاسبي التي حرّضته بطريقةٍ غير مُباشرةٍ على غزو الكويت عام 1990، ويقول أنصار هذه النظريّة إنّ سياسات الرئيس أردوغان خلقت العديد من الأعداء في مِنطقة الشرق الأوسط وأوروبا في الفترة الأخيرة إلى جانب علاقاته المُتوتّرة مع الرئيس دونالد ترامب على أرضيّة صفقة صواريخ “إس 400” الروسيّة، الأمر الذي دفعهم للتوحّد في جبهةٍ واحدةٍ ضدّه.
***
كُل نظريّة تحتوي على بعض الجوانب المُهمّة، ولكن الثانية تبدو الأكثر ترجيحًا بالنّظر إلى التّصريحات الهُجوميّة الشّرسة التي صدرت عن السيّد فيصل مقداد، نائب وزير الخارجيّة السوري، الذي شنّ هُجومًا غير مسبوق على الرئيس التركي ووصفه بـ”الكاذب” و”مجرم الحرب”، وتوعّد بالتصدّي للعُدوان التركيّ الغاشم بكُل أشكاله، وفي أيّ بُقعةٍ من البِقاع السوريّة، وبكُل الوسائل والسّبل المشروعة”، ولا نستبعِد أن يكون هذا الهُجوم اللّفظي الشّرِس هو مُقدّمة، أو تمهيد، لخُطّةٍ روسيّةٍ سوريّةٍ لاستغلال التورّط التركيّ وحُلفائه في المُعارضة السوريّة المُسلّحة لشَنِّ هُجومٍ كاسحٍ على إدلب، والقضاء على الجماعات المُسلّحة فيها، وإعادتها إلى السيادة السوريّة.
وإذا كانت إدارة الرئيس ترامب خذلت حُلفاءها الأكراد، وتخلّت عنهم، وتركتهم يُواجهون مصيرهم وحدهم، فإنّ نظيرتها الروسيّة وجدت نفسها مَحصورةً بين حليفين، السوريّ والتركيّ، ولا تُريد أن تخسر أيّ منهما، الأمر الذي يُشكّل لها إحراجًا كبيرًا، ولهذا بدت مِثل الحاوي الذي يبحث في أكمامه عن حِيَلٍ جديدةٍ تُخرِجها من هذا المأزق.
حديث سيرغي لافروف، وزير الخارجيّة الروسي اليوم الخميس عن عزم حُكومته بذل جُهود لفتح حِوار بين الخصمين السوري والتركي من جهةٍ، والسوري والكردي من جهةٍ أخرى، ربّما يكون المِحور الأساسي للدبلوماسيّة الروسيّة في الأيّام القليلة المُقبلة، فروسيا، وبحُكم علاقاتها القويّة مع الأطراف الثلاثة، هي الوحيدة المُؤهّلة لهذا الدور، ولكن نجاح أو فشل أيّ مبادرة في هذا المِضمار يعتمد على مُوافقة هذه الأطراف، وما يُمكن أن تُحقّقه من مكاسبٍ تخدم أهدافها ومواقِفها.
السيّد المقداد لم يُمانع إجراء الحِوار مع الأكراد عندما قال إنّ أحضان سورية مفتوحة لكُل مُواطنيها، ولكنّ حُكومته لن تتحاور مع أيّ منطق انفصاليّ، وهذا أمرٌ مفهومٌ خاصّةً أنّ سورية فقدت ثِقتها بالإدارة الذاتيّة الكرديّة في الشّمال لنكثِها كُل العُهود، والهَرولة نحو الأمريكان، والتّلويح بخِيار الانفصال، ويُشاطر الروس السوريين الشّعور نفسه نحو الأكراد الذين لم يتعلّموا مُطلقًا من دُروس الخُذلان الأمريكيّة والإسرائيليّة السّابقة.
بدايات الحروب دائمًا معروفة، ولكنّ ما يَصعُب التكهّن به هو نهاياتها، فالتّحالف السعوديّ اعتقد أنّه يستطيع إنهاء الحرب في اليمن، وتحديد نتائجها لصالحه في غُضون ثلاثة أسابيع، وها هي تمتد لخمس سنوات، أمّا الحرب في أفغانستان فبدأت قبل 18 عامًا وما زالت أمريكا مُتورّطةً وتبحث عن مَخرجٍ دون جدوى، والأمثلة كثيرة في هذا الإطار.
الرئيس أردوغان بإرساله قوّاته البريّة إلى شِمال شرق سورية ربّما يكون أقدم على المُغامرة الأكبر في حياته السياسيّة، لأنّ إرسال قوّات بريّة في زمن حروب الطائرات المُسيّرة، والصّواريخ المُجنّحة “مُقامرة” كبيرة، قد تترتّب عليها خسائر ماديّة وبشريّة ضخمة في ميادين القِتال يكون لها انعِكاسات داخليّة (تركيّة) وخارجيّة دوليّة، في زمنٍ تَحرِص فيه مُعظم الدول، إن لم يَكُن كلها، على تَجنُّب هذه الخسائر.
***
السّؤال الذي يطرح نفسه بقُوّةٍ: إلى متى يُمكن أن تستمر هذه الحرب، وما هي إمكانيّة الصّمود فيها وتحمّل خسائرها البشريّة والماديّة، وما يُمكن أن يترتّب عليها من رُدودٍ وإجراءات من قِبَل الخُصوم، وخاصّةً الأمريكان والأوروبيين الذين يُلوّحون بعُقوباتٍ اقتصاديّةٍ؟
تَوحُّد جميع خُصوم الرئيس أردوغان العرب في جبهةٍ واحدةٍ، ومواقفهم المُعارضة والمدينة للتدخّل التركيّ العسكريّ في شِمال سورية، ودعمهم لسورية ووحدتها الترابيّة ودعوتهم لاجتماعٍ طارئٍ لوزراء الخارجيّة السبت، وهُم الذين تَآمروا عليها، وشاركوا في تدميرها، وجمّدوا عُضويّتها، تعكِس أوّل مُفارقات هذهِ الحرب وعجائِبها.. والقادم أعظم.