بقلم :عبد الباري عطوان
أعلن الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان استِعداد بلاده لدُخول الحرب المُشتعلة أوارها في ليبيا حاليًّا ووقوفه بالكامِل في خندق حُكومة الوفاق التي يتزعّمها السيّد فايز السراج وتحظى باعترافٍ دوليّ، في مُواجهة الجِنرال خليفة حفتر الذي يُحاصِر العاصمة الليبيّة وتتقدّم قوّاتها بشكلٍ مُتسارعٍ في أحيائها بدعمٍ من مِصر والإمارات وروسيا وإيطاليا وفرنسا، وبِدء المُواجهة الدمويّة في غُضون أُسبوعين.
الرئيس أردوغان الذي قام بزيارةٍ خاطفةٍ إلى تونس مصحوبًا بوفدٍ يضُم وزيريّ الخارجيّة والدّفاع ومدير المُخابرات وعددا كبيرًا من المُستشارين العسكريين أطلق الرّصاصة الأولى والأهم في هذا التدخّل العسكريّ المُباشر عندما قال “أعطينا وسنُعطي كُل أشكال الدّعم لحُكومة طرابلس”، وأكّد “أنّه سيُلبّي طلبًا لها بإرسال قوّات في إطار التدخّل العسكريّ الرسميّ، بعد إقرار البرلمان التركيّ في دورة انعِقاده يوميّ الثامن والتاسع من شهر كانون الثاني (يناير) المُقبل.
أردوغان سيكون في مُواجهةٍ عسكريّةٍ مُباشرةٍ مع حُلفائه الروس الذين اتّهمهم “بإرسال 2000 من الجُنود المُرتزقة عبر شركة فاغنر الروسيّة القريبة من الكرملين، كما أشار إلى 5000 جندي سوداني يحظون بدعمِ مِصر والإمارات”، بينما يتحدّث الطّرف الآخر عن آلافٍ من المُقاتلين المُتشدّدين الذين جرى نَقلُهم من إدلب إلى طرابلس.
هذا التّدهور في العُلاقة بين “الحليفين” التركيّ والروسيّ بعد فشل وفد بعث به أردوغان إلى موسكو للتوصّل إلى اتّفاق وقف إطلاق نار في ليبيا وسورية، وتسوية سياسيّة للأزمتين، فالمُفاوضات التي استغرقت ثلاثة أيام، و”هذا أطول بكثير من المتوقع”، لم تتمخض عن أيّ تفاهمات، وذكرت تقارير إخباريّة أنّ الوفد التركيّ الذي ضمّ عسكريين وضُبّاط مُخابرات كِبارًا عادَ إلى أنقرة غاضِبًا وخائِبَ الأمل لأنّ الجانِب الروسيّ تمسّك بموقفه في كُل من إدلب وطرابلس الغرب، وعبّر عن قلقه، وربّما رفضه للتدخّل العسكريّ التركيّ في ليبيا.
***
مُوافَقة البرلمان التركيّ على إرسال قوّاتٍ مُعزّزةٍ بمُدرّعات والمزيد من طائرات بأجنحة ثابتة أو “درونز” المُسيّرة، والسّفن الحربيّة، ستكون “آليّة” لأنّ حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يحظى أيضًا بدعم الحزب القوميّ اليمينيّ المُتطرّف سينال الأغلبيّة بسُهولةٍ وبطريقةٍ آليّة، وكان قد وافق البرلمان نفسه على إرسال قوّات تركيّة إلى سورية والعِراق دون أيّ مشاكل، فمَا يقترحه أردوغان يتم اعتماده وبالحَد الأدنى من المُعارضة.
زيارة الرئيس أردوغان إلى تونس خلقت عاصفةً من المشاكل للعهد الجديد برئاسة السيّد قيس سعيّد خاصّةً بعد حديث أردوغان، والسيّد فتحي باشااغا وزير الداخليّة القويّ في حُكومة الوفاق عن الاتّفاق على تشكيل تحالف تونسيّ جزائريّ تركيّ “لدعم التّعاون الاقتصاديّ والاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ في ليبيا”، الأمر الذي أعطى انطِباعًا بأنّ تونس تقِف في صفّ حُكومة الوفاق في طرابلس، وتُؤيّد التدخّل العسكريّ التركيّ، الأمر الذي نفته الدكتورة رشيدة النيفر، المُستشارة الإعلاميّة لمؤسّسة الرئاسة، وأكّدت أنّ تونس لن تدخُل في سياسة المحاور.
الإشاعات في تونس تنتشر مِثل النّار في الهشيم هذه الأيّام أبرزها أنّ تركيا تُريد إقامة قاعدة عسكريّة تركيّة على أراضيها، وأن تتحوّل إلى نُقطة استقبال للقوّات والمعدّات التركيّة، وربّما آلاف المُقاتلين الإسلاميين الذين سيتدفّقون إلى ليبيا للقِتال إلى جانب حُكومة السراج في تَكرارٍ للسّيناريو السوري، ولكن الرئاسة التونسيّة جدّدت نفيها بقوّةٍ لكُل هذه الشّائعات في مُحاولةٍ لامتِصاص غضب قطاعٍ عريضٍ من الشّعب التونسي.
وصول قوّات تركيّة إلى ليبيا ربّما يُشعِل فتيل حرب إقليميّة في المِنطقة بأسرها، ويبدو أنّ الرئيس أردوغان على حافّة الإقدام على “المُغامرة” أو “المُقامرة” الأكبر في حياته السياسيّة، خاصّةً أنّ مُغامرته الأخرى في سورية عادت عليه بالعديد من المشاكل والإخفاقات، فلم ينجح في الإطاحة بالرئيس بشار الأسد وحُكمه، وتنصيب حُلفائه مكانه في قصر الرّئاسة في دِمشق، والأخطر من ذلك تدفّق أكثر من أربعة ملايين لاجِئ سوري إلى تركيا باتوا يُشكّلون عِبئًا اقتصاديًّا وأمنيًّا على كاهِلها، ويُمكن أن يُضاف إلى هؤلاء مِليونيّ لاجِئ جديد إذا قرّرت روسيا إلقاء كُل ثُقلها خلف الهُجوم السوريّ الحاليّ الذي يَهدِف إلى استِعادة إدلب وريفها، وهذا غير مُستَبعد على الإطلاق.
الرئيس أردوغان لا يُريد أن يتكرّر السّيناريو المِصري في ليبيا، وأن يتحوّل الجِنرال حفتر إلى عبد الفتاح سيسي آخَر، والقضاء بالتّالي على آخِر حُكم للإسلام السياسيّ الدّاعم لحُكومة السراج في طرابلس، في أفريقيا والوطن العربي، ولهذا سيُلقِي بكُل ثُقله العسكريّ والسياسيّ خلف هذه الحُكومة، وهو خِيارٌ مُكلفٌ جِدًّا ماديًّا وبشَريًّا وسِياسيًّا.
كان لافِتًا أنّ الرئيس أردوغان تحدّث للمرّة الأُولى، وبكُل وضوح إلى وجود مِليون مُواطن ليبي من أصولٍ تركيّة في ليبيا، وأنّه يتدخّل لحِمايتهم، الأمر الذي أثار العديد من علامات الاستِفهام، فهذه هي المرّة الأولى التي يتم فيها طرح هذه المَسألة بهذا الوضوح، واستِخدام هؤلاء كغطاء للتدخّل العسكريّ الوشيك، وهل هؤلاء كمُواطنين ليبيين تتعرّض حياتهم للخطَر فِعلًا؟ ومِنْ مَنْ؟ ولماذا تمييزهم عن اللّيبيين الآخَرين؟
طرابلس ليست مُجاورة لتركيا مِثل سورية، ويفصِلها عنها حوالي ألفيّ كيلومتر من مِياه البحر المتوسّط، الأمر الذي يُثير العديد من علامات الاستفهام حول فُرص نجاح هذا التدخّل العسكريّ التركيّ انطِلاقًا من المعايير العسكريّة المُتّبعة وبالإشارة إلى خُطوط الإمداد، ناهِيك عن وجود دول عُظمى تقِف في الجبهة المُقابلة، دوليّة وإقليميّة، بعضها مِثل مِصر والسودان إحدى دول الجِوار الجُغرافيّ لليبيا، وتَعتبِر أنّ ليبيا أحد أبرز حلقات أمنِهما القوميّ.
مِن المُفارقة أنّ طرفيّ هذه الحرب من اللّيبيين، أيّ الجِنرال حفتر وحُكومة السراج، مَسؤولان عن حال التّدهور والفوضى وعدم الاستِقرار الذي تعيشه ليبيا مُنذ تدخّل حِلف “النّاتو” عَسكريًّا، والإطاحة بنِظام العقيد معمّر القذافي، فقد قاتَلا تحت مِظلّة هذا الحِلف ووفّرا له الغِطاء والذّرائع لتدمير ليبيا ومُؤسّساتها الحاكِمة، ولهذا لا نقِف في خندق أيٍّ منهما ولن نقِف، فقد تشابَهت “البقَر” بالنّسبةِ إلينا في هذه الصّحيفة.
الشّعب الليبي الذي كان وما زال يتطلّع إلى الأمن والاستقرار والحياة الكريمة هو ضحيّة الجانبين، مثلما كان ضحيّة حِلف “الناتو” فقد تخلّص من نظامٍ جرى اتّهامه بالفساد والديكتاتوريّة تحت ذريعة التدخّل باسم الديمقراطيّة وحُقوق الإنسان والحُكم الرّشيد، لينتهي نِصفه مُشرّدًا في دول الجِوار المِصري والتونسي، وفي بعض عواصِم المَنافي الأجنبيّة، وتتعرّض ثرَوات بلاده للنّهب في وضَح النّهار، وبلده للتّقسيم، والتدخّلات الخارجيّة، والوقوع تحت سيطرة الميليشيات التي تَعتبِر حُقوق الإنسان والديمقراطيّة خارِج نِطاق اهتِماماتها.
***
عارَضنا تدخّل حِلف “النّاتو” في ليبيا لأنّنا توقّعنا هذه النّتيجة المأساويّة، رُغم رفضنا لكُل أشكال الديكتاتوريّة وغِياب كُل مُؤشّرات الإصلاح في البِلاد، وكان حِرصنا على ليبيا كبلد ووحدتها الترابيّة كأحد أوجُه ردّ الجميل لها وشعبها لوقوفها في خندق نُصرة قضايا أمّتها، ونُعارض بالقدر نفسه كُل التدخّلات الحاليّة، تُركيّةً كانت أو روسيّة أو إماراتيّة أو قطريّة أو مِصريّة، لأنّ هذه التدخّلات تعني المزيد من المُعاناة للشّعب اللّيبي الطيّب المَظلوم المَخدوع مَعًا.
الحسم عَسكريًّا لن يتأتّى سَريعًا لأيّ من الطّرفين المُتحارِبَين، ومن يقول غير ذلك لا يعرِف تاريخ الحُروب في المِنطقة والعالم، فإذا كانت التدخّلات العسكريّة الخارجيّة في سورية تدخُل عامها التّاسع، وفي اليمن عامَها الخامس، والقديمة في ليبيا عامَها العاشر، فكم ستستغرق التدخّلات العسكريّة الحاليّة في ليبيا التي تُجسِّد، مِثل القديمة، مُحاولات الاستِيلاء على ثرَوات البِلاد النفطيّة، وعلى حِساب مُعاناة الشّعب اللّيبي؟
نَترُك الإجابة للأشهُر والسّنوات المُقبِلة، ولنا عودة بإذن الله، لأنّ المِصيَدة جرى إعدادها بإحكامٍ في لُعبةِ أُممٍ جديدة، العرب والمُسلمون وثرَواتهم وشُعوبهم أبرز ضحاياها.. والأيّام بيننا.