في فبراير (شباط) الماضي جرت الانتخابات البرلمانية وغير البرلمانية في إيران، من دون ضجة كبيرة، لكن الصدمات السياسية لا تزال تتفاعل على أثرها. وقد يكون الرئيس حسن روحاني هو الذي يتعرض للتحدي من جراء التطورات الأخيرة، حيث إن الشخصيات المحافظة لا تزال تدير المؤسسات الرئيسية للدولة. عام 2013 انتخب روحاني رئيًسا ليتكفل بإعادة هيكلة داخلية من شأنها المساعدة على إصلاح الاقتصاد الإيراني المتداعي، وأن يدير مفاوضات نووية تؤدي إلى رفع العقوبات، وبالتالي تعيد إيران إلى المجتمع الدولي. حقق الاتفاق النووي، لكن لكي يضمن إعادة انتخابه رئيًسا العام المقبل عليه أن يقدم على الإصلاحات الداخلية التي يحتاجها الشعب الإيراني من أجل تذوق ثمار «الازدهار الاقتصادي». بعد مرور عام على الاتفاق النووي مع الغرب، يبدو أن المتشددين تزداد سلطتهم وردات فعلهم العنيفة ضد روحاني الذي يقول حلفاؤه إن المعركة ضده يمكن أن تهمشه أو تدفع به إلى الخروج من السلطة في انتخابات العام المقبل. ويضيف هؤلاء أن المفاوضات انتهت، وكان مطلوًبا من روحاني أن يقودها، ويحاول المرشد الأعلى خامنئي وأتباعه تقييد سلطة الرئيس أو استبداله، وفي مواجهة هذه الضغوط قد يقرر روحاني عدم خوض الانتخابات. في نهاية شهر مايو (أيار) الماضي، صار آية الله أحمد جنتي (89 سنة) رئيًسا لمجلس الخبراء، وأصبح علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى. الشخصيتان من داخل المعسكر المحافظ واجهتا مرشحين أكثر اعتدالاً. وهذا بدوره كان شكلاً من أشكال التوازن مع روحاني وأنصاره. لن يسعى لاريجاني إلى تقويض روحاني. صحيح أنه في وضع مريح بعدما فاز برئاسة المجلس بـ173 صوًتا مقابل 103 لصالح المصلح محمد رضا عارف. ولكن، بينما كان لاريجاني من المحافظين طيلة حياته السياسية، إلا أنه اليوم أقرب إلى العناصر الأكثر اعتدالاً في النظام مما كان عليه في الماضي، وقد أدار حملته لرئاسة المجلس كمرشح مستقل.
قد يكون لمصلحة روحاني أن لاريجاني هو من فاز، إذ لو أن عارف هو الذي فاز لأدى ذلك إلى زيادة الاحتكاكات في صفوف المحافظين، ولكانوا كلهم وجهوا نيرانهم ضد روحاني. إن لروحاني مصلحة في تخفيف حدة التوتر مع المحافظين والمتشددين كي لا يواجه تحدًيا في سعيه لفترة رئاسية ثانية العام المقبل.
أما القصة مع جنتي فلها تداعيات أخرى. هو من المحافظين الأقوياء، وله وجهات نظر متشددة تجاه الغرب. ثم إنه ليس فقط رئيًسا لمجلس الخبراء، بل إنه يترأس أيًضا مجلس صيانة الدستور، وهو المجلس الذي يقبل أو يستبعد المرشحين الذين يسعون للعمل في مؤسسات الدولة. وبالنسبة إلى جنتي فهذا المجلس يفيده في تحديد عدد الإصلاحيين داخل النظام السياسي.
علاوة على ذلك،ُيعتبر جنتي من المقربين من خامنئي، ويولي الأخير أهمية قصوى لمجلس الخبراء، إذ أًيا كان من يرأس هذه الهيئة، فإنه يضمن تأثيره في القضايا الرئيسية التي من شأنها أن تؤثر في الدولة الإيرانية والمجتمع للسنوات المقبلة، خصوًصا في ما يتعلق بمن يخلف خامنئي. ولهذا، فإن جماعة خامنئي يريدون الإبقاء على هذه الهيئة بمثابة معقل لهم وشرطهم أن يترأسها محافظ متشدد.
من هنا، وعلى الرغم من الإنجازات المميزة التي حققها المعتدلون والإصلاحيون في الانتخابات هذا العام، فقد جاء انتخاب جنتي ولاريجاني بمثابة هزيمة لهم، وفوزا ساحًقا لخامنئي ومختاريه. هؤلاء عازمون على سحب الصلاحيات من العناصر الأكثر اعتدالاً في النظام ومنعهم من حشد كتلة مؤثرة يمكن، من وجهة نظرهم، أن تهدد الأسس التي بنيت عليها الجمهورية الإسلامية.
هؤلاء الحلفاء متسامحون مع الأصوات الأكثر اعتدالاً، شرط أن تكون هادئة وغير مسموعة، لذلك عملوا على إبعاد الشخصيات البراغماتية عن المناصب الرئيسية في مختلف الهيئات والمجالس، على الرغم من الدعم الشعبي لسياسة أكثر اعتدالاً في طهران. ويرى حلفاء روحاني أن شعبيته واحتمال خروج إيران من عزلتها الاقتصادية والسياسية أفزعا الحلفاء المتشددين لخامنئي الذين يخشون من فقدان السلطة، ولهذا يخططون لإخضاع الرئاسة.
يقول لي أحد المراقبين السياسيين: «لقد احتدم الصراع السياسي في إيران وصارت شرعية المؤسسة على المحك، وسوف يتعمق الصراع حتى الانتخابات الرئاسية العام المقبل». في ظل هذه الأجواء يبدو أن لدى روحاني شخصًيا شكوًكا جدية حول ترشيح نفسه لولاية ثانية.
الوضع المثالي لخامنئي أن يكون هناك رئيس ضعيف يمكن تحميله مسؤولية حالات الإحباط والضيق الاقتصادي التي يشعر بها الكثير من الإيرانيين؛ فخامنئي لا يطمئن إلى مصيره من دون دعم المخلصين من «الحرس الثوري» وأتباعهم من «الباسيج». لقد انتخب روحاني لحل القضية النووية الإيرانية. الآن الأزمة النووية انتهت، لذلك يريد المتشددون استعادة السيطرة عن طريق إضعافه، والفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل يقوي قبضتهم أكثر في السلطة.
حتى الآن لا يوجد منافس واضح ليقف ضد روحاني، لكن المتشددين يمكنهم التوصل إلى توافق في الأشهر المقبلة حول مرشح رفيع المستوى ليواجهه.
يعتقد المتشددون في إيران أنه من دون مواجهة، خصوًصا مع الغرب، فإن الجمهورية الإسلامية لن تكون دولة ثورية. إن التوقعات التي أطلقها روحاني حول إيجابيات الاتفاق النووي مع الغرب، يصعب تحقيقها، ثم إن خيبة الأمل الشعبية وبتشجيع مؤكد من المتشددين، قد ترتد على روحاني. ويعود فشل روحاني أيًضا بعدم تحقيق ما وعد به، جزئًيا للعقوبات الأميركية الباقية كما هي، ثم لأن المصارف الأوروبية والمستثمرين الغربيين يحجمون عن التعامل مع إيران؛ إذ يواجه المستثمرون الأجانب أيًضا مخاطر أخرى مثل القوانين المعقدة، وعدم الشفافية في النظام المصرفي الإيراني، والآليات غير الواضحة لتسوية المنازعات، إضافة إلى قضايا العمال والفساد.
وكانت حكومة روحاني تلوثت بعد تسرب كشوفات بعض كبار المسؤولين التنفيذيين، حيث تبين أن رواتبهم عشرات أضعاف متوسط الدخل الشهري للأسرة الحضرية الإيرانية، واللافت أنه لم يتم تحديد مصدر التسريب.
التركيز في إيران الداخل في الوقت الراهن هو بالطبع على الاقتصاد الذي سيكون ساحة المعركة للانتخابات الرئاسية المقبلة. في الأشهر الأخيرة، عاد خامنئي يتحدث عن أهمية «الفكر الثوري» و«اقتصاد المقاومة»، وهذا بمثابة انتقاد مبطن لسياسات روحاني التي تدعو إلى التفاعل سياسًيا واقتصادًيا مع الغرب، كما أن ملاحظات خامنئي تعتبر أيًضا دعًما للمتشددين.
يحاول خامنئي ومعه أيًضا روحاني ربط مشكلات إيران الاقتصادية بالصراع الداخلي بين الفريقين المتشدد والإصلاحي، والطرفان يحاولان تجاهل النزف المالي الذي تعاني منه إيران بسبب تورطها في الحرب السورية، وفي اليمن، وإن كانت في العراق تحاول التعويض باقتطاع حصتها من النفط العراقي. المتشددون يمدون الأيدي إلى قروض تقدمت بها روسيا، وإلى تقوية العلاقة مع تركيا؛ إذ بينما احتفل أنصار «حزب الله» في لبنان عندما ظنوا أن الانقلاب العسكري قد نجح، كان محمد جواد ظريف وزير الخارجية، وعلي شمخاني مستشار الأمن القومي، ليلة الانقلاب على اتصال بنظرائهما الأتراك ينقلان لهم الأوامر العليا بأن إيران تقف مع شرعية الرئيس رجب طيب إردوغان. برأي طهران أن هذه التجربة قد تدفع إردوغان إلى تفهم وضع بشار الأسد في سوريا. ثم إن أي خضة في تركيا قد تهز المنطقة كلها، بالإضافة إلى إيران وأوروبا ودول القوقاز. لم تنَس إيران الدور الذي لعبته تركيا في تخفيف حدة ضغوط العقوبات عليها، وبعدما حقق روحاني الصفقة النووية تخطط الدولتان إلى زيادة حجم التجارة بينهما إلى 3 أضعاف عما هي عليه الآن، أي 30 مليار دولار. تحريك الاقتصاد الإيراني ينقذ روحاني، لكنه يهدد قبضة المتشددين على مقاليد السلطة.
واستمرار الحرب في سوريا يعني أيًضا عدم السماح لروحاني بتحقيق إصلاحات. وما بين مستقبل إيران والغرق في المستنقع السوري، قد يختار خامنئي الأمر الثاني ويضحي بروحاني.