هدى الحسيني
هنيئًا لأكراد تركيا، فقد حطوا أخيرًا رحالهم في البرلمان كحزب مع رسالة واضحة: السلام.
بعد انتصارات متتالية يكون طعم الهزيمة أمرّ من العلقم، خصوصًا إذا جاء مع انتخابات تاريخية لأنها بحالتي انتصار حزب العدالة والتنمية أو هزيمته كانت ستقرر مصير تركيا.
صار رجب طيب إردوغان «سلطانًا» وحيدًا في قصر كلف بناؤه 615 مليون دولار، ويضم 1150 غرفة، لا بد أنه الآن يشعر بالبرد، فالسلطة المطلقة مثل النار تدفئ تم تحرق ثم تدير ظهرها.. كان يريد أن يملأ قصره، إضافة إلى الحاشية العثمانية الملابس، بثلثي صور نواب البرلمان الذين رفعوه إلى مرتبة وصل إليها قبله السلطان سليم عام 1546. ارتطمت أحلام السلطان بتركيا الحديثة، اكتشف أنها أقوى منه، لم يعطِه الشعب ولو أكثرية ضئيلة تسمح له بتشكيل حكومة كما كان يفعل في السابق. قال أحد البسطاء الأكراد: نحن من أوصلنا إردوغان إلى السلطة، ونحن من أسقطناه. لا تنسوا «كوباني». وهذا صحيح. كان الشعب بخيلاً معه، أعطى الأكراد 80 مقعدًا بينها 19 مقعدًا كان يحتاج إليها إردوغان للحصول على الأغلبية، ومن يستطيع أن يقنع «أقوى رجل» أن أحزاب المعارضة لديها اليوم 292 مقعدًا ولحزبه العدالة والتنمية 258؟
قرر إردوغان أن يواصل اقتحام تركيا على أنه الرئيس الأقوى في تاريخها الحديث علها تنسى «منافسه» كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة. أعتقد أنه يقصّر حبل الخلاص لمناوئيه، لم يلحظ في عز هجومه على الجميع أن الحبل يلتف حول عنقه. تبنى الحملة الانتخابية طالبا من الشعب أن يعطيه 400 مقعد من أصل 550. لحقت به الهزيمة حتى القصر الذي أطفأ أنواره.
كان يحلم بالصلاة في جامع أمية في دمشق، ومنها ينطلق إلى قاهرة المعز. هذا سقوطه الثاني، الأول كان مع سقوط حكم «الإخوان المسلمين» في مصر، أعطاهم إشارة «رابعة». كان تقسيميًا عرقيًا ومذهبيًا.
الذي أعطى الانتخابات التركية رونقًا حلوًا، ومذاقًا جديدًا، كان الزعيم الكردي الشاب صلاح الدين دميرتاش. وصفه إردوغان بـ«صبي تافه» وأنه مجرد واجهة لحزب العمال الكردستاني. قال دميرتاش بعد النتائج: «النقاش حول النظام الرئاسي والديكتاتورية في تركيا انتهى إلى غير رجعة». صوّت له الأكراد والأتراك، اليسار والليبراليون والعلمانيون، فوصل الهوس بأحمد داود أوغلو إلى أن يطلب منه تغيير اسمه، واتهمه بأنه مسلم غير ملتزم، رغم أنه من عائلة ورعة، لكن صلاح الدين الكردي الجديد دمّر أحلام إردوغان، وهل كان هناك أهم من «سلطان منتخب»؟!
أدرك حزب الشعوب الديمقراطي الكردي أن الانتخابات ستكون استفتاء حول إردوغان، فركز جزءًا كبيرًا من حملته عليه ونجح. الشعب التركي هزم إردوغان، وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي هزم حزب العدالة والتنمية.
رسميًا وحسب الدستور كان إردوغان ممنوعًا من المشاركة في الحملات، أصر على أن أهدافه حميدة، لكنّ الآخرين حذروا من أنه بتجاوزه للدستور يتجه نحو «ديكتاتورية مطلقة». قبل الحملة كان إردوغان أبعد الناخبين المثقفين، لاحق معارضيه، زج بكبار قادة الجيش في السجون بتهمة التآمر، سجن واضطهد الصحافيين والصحافة، كاد أن يجعل من صحيفة «جمهورييت» آخر ضحايا حملته، حاول حجب «تويتر» و«يوتيوب» وأراد أن يدمر مستقبل الشباب، أعلن حربًا على فتح الله غولن الذي ساعده في الوصول إلى السلطة. هل إلى هذه الدرجة تعشش في عقله نظرية المؤامرة؟ أم أنه يمتطيها للوصول إلى غاياته؟ تدخّل في الاقتصاد وفي سعر الفائدة وفي عمل المصرف المركزي، لكن الاقتصاد تعب، وسيتعب أكثر، فالحلفاء المستثمرون سحبوا أموالهم ومشاريعهم عندما رفع «السلطان» شعار «رابعة».
قال عن الديمقراطية في السابق إنها مثل قطار نركب فيه، نحقق غاياتنا، ثم نغادره. مع سنوات الحكم صارت بنظره أنها تسمح له بقول ما يريد (حرية الرأي) لكنها تمنع الآخرين من التعبير عن مشاعرهم (إنهم عملاء). ظن أنه تركيا وأن تركيا هو. قال يوم السبت الماضي عشية الانتخابات: «يقولون إذا حصل إردوغان على ما يريد سيصبح شخصًا لا يقف شيء في طريقه، يقصدون أن أحدًا لن يستطيع وقف تركيا»، مع أن القائلين هم من الأتراك، لكن هل سيقبل السلطان بالهزيمة؟ لم يظهر بشخصه إلى العلن، اكتفى ببيان مكتوب بأن حزبًا بمفرده لا يمكن أن يحكم تركيا. كم تغير الأحداث من وقائع!
كانت الوجوه جامدة والنظرات تتطلع نحو الأرض عندما علا صوت داود أوغلو بعد ليلة الهزيمة محاولاً اعتبارها انتصارًا، فالحزب لا يزال الأكبر. عبرنا 8 يونيو (حزيران)، اليوم المفروض أن يستقيل فيه داود أوغلو، فهو قال في 8 مايو (أيار) الماضي إنه إذا لم يكسب حزب العدالة والتنمية الانتخابات بأكثرية فإنه سيستقيل.
نظريًا يمكن لحزب العدالة والتنمية التحالف مع حزب الحركة القومية اليميني، لكن رئيس الحزب أكد أنه سيبقى خارج أي ائتلاف، ومستعد لانتخابات جديدة. أما تحالف من أحزاب المعارضة فغير ممكن لأن حزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي لا يمكن أن يلتقيا، والأخير رفض التحالف مع حزب العدالة والتنمية، ثم إن أي تحالف مع هذا الحزب سيكون بمثابة كأس سم للأحزاب الصاعدة أو لحزب الشعب الجمهوري المعارض.
في ظل الدستور يمكن للرئيس الدعوة لانتخابات جديدة إذا عجزت الأحزاب عن تشكيل حكومة خلال 45 يومًا. قد يتردد إردوغان لأن الدعوة إلى انتخابات جديدة بعد 3 أشهر من المدة الممنوحة سيف ذو حدين.
الانتخابات الأخيرة أعطت نتيجتين واضحتين، الأولى أن حزب العدالة والتنمية إلى هبوط، ولم يعد كمن يطير على بساط سحري. والثانية قصمت ظهر إردوغان كأقوى رجل والأكثر سلطة، وطموحه بالسلطنة سيذهب أدراج الرياح على الأقل لسنوات كثيرة مقبلة.
كم أن الزمن قهار. عام 2002 وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بحصوله على نسبة 34.4 في المائة من الأصوات وحاز على 66 في المائة من المقاعد. بعد 13 عامًا، حصل على 40.8 في المائة من الأصوات لكنه حصد 47 في المائة من المقاعد.
هناك أزمة تلوح في الأفق التركي سيرافقها تعب اقتصادي، إذا طالت ستضر أكثر بإردوغان. هناك تحديات على المديين القصير والبعيد بالنسبة إلى الديمقراطية في تركيا. ليس واضحًا ما إذا كانت النتائج ستعجل في إيجاد تسوية للمسألة الكردية، وتحقيق سلام دائم في تركيا، وذلك لأسباب كثيرة أهمها أن الحزب القومي التركي حصل على مقاعد إضافية، وقد يظل حزب العدالة والتنمية يحاول شده لحكومة ائتلافية. ثم هناك الأوضاع الإقليمية المحفوفة بالمخاطر. رئيس إقليم كردستان العراق مسعود برزاني هنأ أكراد تركيا، ثم هناك أكراد سوريا والتوتر مع حزب العمال الكردستاني، وليس معروفًا ما إذا استمر عبد الله أوجلان في العملية السلمية.
بالنسبة إلى السياسة الخارجية كان إردوغان حاسمًا في ارتكاب الأخطاء. صارت السياسة الخارجية أكبر منه وطوال السنة ونصف السنة الماضية ظلت السياسة الخارجية تتخبط في المصاعب التي أوجدتها لنفسها. لكن من المؤكد أنه لن يكون هناك تغيير كبير في السياسة الخارجية لأن القيود التي تواجهها صارت خارج سيطرتها، وأهمها ماذا سيحصل في سوريا. وحتى السنة المقبلة على الأقل ستظل السياسة الخارجية التركية مشلولة أو على الأقل تبحث عن منفذ.
كأن زمنًا طويلاً مر عندما كان إردوغان في نظر الغرب الزعيم المسلم المعتدل الذي على العرب اتخاذه مثلاً يحتذى به، لكن جشعه للسلطة والتسلط والتمدد دفعه للصراع مع الغرب ففقد مصداقيته، فتح حدود بلاده لكل من أراد استعمال الغرائز المتوحشة للقتال في سوريا. طعن العرب ومد يده لـ«الإخوان المسلمين»، كان يعتقد أن الهزيمة التي لحقت بهم في مصر وتونس وليبيا سيعوضها لهم بأن يصبح رئيسًا مطلق الصلاحيات على الأقل حتى عام 2024، فأسقطه العرب من حساباتهم الإقليمية.
الغريب أن السياسيين لا يشعرون بأن الطموح الذي يدوس على كل شيء تكرهه كل الشعوب. لم تعلُ أصوات الفرح بتحطم طموح إردوغان في تركيا فقط، بل في كل الدول، ومع هذا لا يجب اعتباره قد انتهى!