عندما أقر نظام الانتخابات الرئاسية في نهاية خمسينات القرن الماضي٬ برر الجنرال شارل ديغول هذه الخطوة باعتبارها تشكل «لقا ًء بين إنسان وأمة». ولم يكن ديغول٬ للنظام الملكي٬ أول من راوده حلم تحقيق تزاوج بين إرادة الشعب وقيادة رجل يعد بمثابة مبعوث العناية الإلهية يولي جل اهتمامه قوياً الذي كان يحمل في قلبه ميلاً
لخدمة الأمة٬ وليس لفصيل سياسي بعينه.
وقد بدأ السعي وراء التوصل للخلطة السحرية لهذا المزيج الدقيق مع اندلاع الثورة الفرنسية العظيمة في القرن الـ٬18 والتي سعت بادئ الأمر لإقرار حل وسط ما بين المؤسسة الملكية وسيادة الشعب من خلال ماكسميليان روبسبيير٬ الذي اشتهر كأحد أكبر الزعماء السفاحين لما عرف باسم «عهد الإرهاب الثوري»٬ والمثير أن للملكية.
روبسبيير كان قد بدأ حياته نصيراً متحمساً : «الرئيس الأمير». وبعد أربع سنوات٬ حل وصف آخر لقباً لافتاً وجاءت محاولة أخرى لتحقيق هذا التزاوج مع تولي لويس بونابرت حكم البلاد عام ٬1848 حاملاً محل هذا اللقب: الإمبراطور. وجاء منعطف آخر في المسيرة لا يخلو من مفارقة٬ عام 1871 عندما أصر المستشار الألماني «الحديدي»٬ بسمارك٬ على إجراء فرنسا
لانتخابات وتشكيلها جمهورية قبل إقرار اتفاق سلام معها في أعقاب الهزيمة التي تعرضت لها على يد ألمانيا.
وعليه٬ تفككت الإمبراطورية الفرنسية الثانية وجرى انتخاب جمعية تأسيسية شكل فيها مؤيدو الملكية الغالبية. ومن ثم تأسست الجمهورية الفرنسية الثالثة على أيدي أنصار النظام الملكي.
ومع ذلك٬ ورغم محاولات رجال كانوا بالفعل بمثابة مبعوثين من العناية الإلهية مثل غامبيتا لم تثمر الجمهورية الجديدة قط المزيج المثالي. بعد الحرب العالمية الثانية٬ وبعد معاناتها من تجربة ألمانيا النازية وبناء نظام يقوم حول زعيم أعلى٬ تخلت النخبة السياسية الفرنسية عن الحلم القديم وحاولوا بناء نظام برلماني يشبه إلى حد ما النظام القائم في بريطانيا العظمى. ورغم أن هذا النظام عمل بصورة جيدة داخلياً٬ فإنه أثبت عجزه عن تناول التحديات الناجمة عن تفكيك المستعمرات وانحسار الإرث الإمبريالي الفرنسي على نحو كبير تجلى في الثورة الجزائرية.
في المقابل٬ أثبتت الجمهورية الخامسة التي أسسها ديغول كفاءتها في مواجهة هذه التحديات٬ في الوقت الذي أطلقت فيه العنان أمام ازدهار الفكر الفرنسي على امتداد نصف قرن من الاستقرار السياسي والتحديث الاقتصادي.
ومع هذا٬ يبقى التساؤل الآن: هل فقد النظام الذي صاغه ديغول قدرته على مواجهة التحديات التي ينطوي عليها مجتمع ما بعد الثورة الصناعية في إطار العولمة؟ في الواقع٬ لقد طرح هذا التساؤل في صورته الأقوى مع بداية الحملات الانتخابية الرئاسية في 21 مارس (آذار). بادئ ذي بدء٬ بدت الصيغة التي طرحها ديغول القائمة على «رجل واحد وأمة واحدة» أبعد عن أي وقت مضى٬ ففي هذه المرة تحولت الانتخابات الرئاسية إلى صراع إلى القومية الفاشية السرية٬ وفيما بينها صور متنوعة بين 11 مرشحاً٬ بينهم امرأتان٬ يمثلون مزيجاً متنوعاً من الآيديولوجيات بدءاً من الماركسية التروتسكية وصولاً من الأطياف الديمقراطية والليبرالية والكلاسيكية والمحافظة. إرث الإدارات السابقة. في الوقت ذاته٬ يفتقر الرئيس الحالي فرنسوا هولاند إلى كما أن هذه المرة الأولى التي لا يجري فيها طرح أي من المرشحين باعتباره حاملاً الشعبية على نحو بالغ لدرجة أن أحداً من المرشحين لا يحاول ادعاء أنه خليفته.
تحت قيادته.
من جانبه٬ يتعمد مرشح الحزب الاشتراكي٬ بونو أمون٬ التظاهر كما لو أن هولاند لا وجود له٬ رغم أنه عمل وزيراً للوزراء طيلة خمس قط على لسان فرنسوا فيون الذي عمل رئيساً ونظراً لأن سلف هولاند٬ نيكولا ساركوزي٬ يفتقر إلى الشعبية بالصورة ذاتها٬ فإنه لم يرد ذكره أيضاً سنوات في ظل رئاسته. أيضاً٬ تحرص مرشحة اليمين المتطرف٬ مارين لوبان٬ على عدم ذكر والدها جان ماري. في الوقت ذاته٬ ومع طرحه نفسه في صورة البطل المعارض للمؤسسة بالبرلمان ووزيراً ونائباً السياسية القائمة٬ عمد مرشح أقصى اليسار٬ جان لوك ميلونشون٬ إلى محو ماضيه كعضو بارز في المؤسسة ذاتها٬ ذلك أنه كان عضواً بالبرلمان الأوروبي.
وفي خضم انتخابات يبدو خلالها عدم وجود ماض ميزة٬ فإن الجائزة الكبرى عن غياب الماضي من نصيب إيمانويل ماكرون٬ المرشح المفاجئ الذي نجح في اجتذاب وسائل الإعلام إليه وأمامه فرصة كبيرة للوصول إلى جولة الإعادة في الانتخابات٬ في مايو (أيار) المقبل. ومع هذا٬ تلقى جميع هذه الوجوه التي من المفترض أنها جديدة٬ دعماً من وجوه أخرى قديمة تضرب بجذورها في الساحة السياسية الفرنسية. على سبيل المثال٬ يحظى فيون بدعم الآلة الديغولية القديمة٬ التي أعيد تسميتها مؤخراً «الحزب الجمهوري»٬ علاوة على مجموعات كاثوليكية وشبكة من الوجهاء المحليين. أما لوبان٬ فتعتمد على إرث حركة «أكسيون فرانسيز» السياسية المنتمية لأقصى اليمين ودوائر قديمة تلتزم فكر فيليب بيتان٬ رئيس الدولة الفرنسية الأسبق٬ ومن يحملون بداخلهم حنيناً إلى الجزائر الفرنسية٬ ناهيك عن العناصر المتطرفة التي توفر القوة اللازمة لخوض صدامات في الشوارع. ويتمتع ميلونشون بدعم فلول الحزب الشيوعي والمجموعات المرتبطة بها داخل النقابات العمالية٬ وكذلك الجماعات الفوضوية المتخصصة في سياسات الشارع.
أما بالنسبة لأمون٬ فإنه يملك السيطرة على الأقل على جزء من آلة الحزب الاشتراكي والكثير من الدوائر المركزية شبه الميتة في الوقت الراهن. ونظراً لأن الشعبوية أصبحت الصيحة السائدة في الديمقراطيات الغربية في الوقت الحاضر٬ يحرص جميع مرشحي الانتخابات الرئاسية الفرنسية على أن ينهلوا من هذا المعين. الملاحظ أن الشعبوية لها تاريخ طويل على الصعيد السياسي الفرنسي الحديث يرجع إلى عهد جورج إرنست بوولنجر وبيير بوجاد في القرنين الـ19 والـ20. هذه المرة٬ يجري الترويج للشعبوية بصورة خاصة عبر معارضة الاتحاد الأوروبي٬ بتشجيع من تصويت الـ«بريكست» داخل بريطانيا. من ناحيتها٬ أبدت لوبان رغبتها يدعم الانسحاب من الاتحاد الأوروبي٬ بينما يرغب في الخروج من منطقة اليورو وتنظيم استفتاء بخصوص الخروج من الاتحاد الأوروبي. أيضاً٬ اختار ميلونشون موقفاً أمون في البقاء داخل الاتحاد الأوروبي في ظل شروط لن تقبل أي دولة أخرى عضو في الاتحاد بمنحها لفرنسا. أما فيون٬ فيبقى موقفه غامضاً حيال هذا الأمر٬ لكنه يدعو لتوطيد العلاقات مع روسيا وإيران٬ ما يعني التحرك بعيداً عن الاتحاد الأوروبي. إلى تبني مواقف مناهضة لحلف الناتو والولايات المتحدة مغلفة تجاه الاتحاد الأوروبي٬ يعمد جميع المرشحين الرئيسيين أيضاً وباستثناء ماكرون٬ الذي يبدي حماساً كبيراً لروسيا ويعدون بالتعاون بصورة أوثق مع الرئيس فلاديمير بوتين بخصوص جميع .
ويبدي كل من فيون ولوبان وميلونشون تأييداً علنياً في إطار مناهض لترمب تحديداً القضايا الدولية الكبرى٬ بل وأبدى ميلونشون رغبته في عقد اجتماع ضخم على مستوى القارة الأوروبية لإعادة ترسيم الحدود بهدف تناول «المخاوف» الروسية. أما ماكرون٬ فإنه الوحيد الذي أعلن أنه لن «يتعاون» مع بوتين٬ بينما عارض أمون سياسة موسكو القائمة على توجيه دعم غير مشروط للديكتاتور السوري بشار الأسد.
ومما سبق٬ يتضح أن الحملات الانتخابية الرئاسية الحالية كشفت النقاب عن مشهد سياسي فرنسي ممزق ربما سيكون من الأفضل حكمه في ظل صيغة «رجل واحد
وأمة واحدة» التي أقرها ديغول من قبل. ومع أن هذه ربما لا تشكل نهاية الجمهورية الفرنسية الخامسة٬ فإن النهاية تقترب بالتأكيد.
المصدر : صحيفة الشرق الأوسط