الخريطة الإيرانية الجديدة للجنازات

الخريطة الإيرانية الجديدة للجنازات

الخريطة الإيرانية الجديدة للجنازات

 لبنان اليوم -

الخريطة الإيرانية الجديدة للجنازات

بقلم : أمير طاهري

من بين الملامح الرئيسية المميزة لإيران وجود عدة مئات من المدن صغيرة ومتوسطة الحجم٬ التي تتسم كل منها بسمات مميزة لها٬ وتاريخ طويل. على سبيل المثال٬ تخيل أنك في مدينة عقدا الإيرانية٬ الواقعة على أطراف صحراء لوت٬ حينها سيراودك شعور بأنه ليس هناك من وجود فيما وراء هذا المكان٬ حيث يخيم شعور عام على المدينة بأنه ليس ثمة مكان آخر في الكون خلاف هذه البقعة. ونظًرا لموقعها الفريد في قلب بساتين من أشجار الرمان والسفرجل٬ تبدو المدينة أشبه بجنة على الأرض. وتعيش هذه المدن الإيرانية بمعزل عن فوضى الحياة الوطنية٬ ونادًرا ما يرد ذكرها في عناوين الأخبار.

ومع ذلك٬ عاودت كثير من هذه المدن الظهور على خريطة المخيلة الوطنية٬ لتذكر الجميع بوجودها. بيد أن المؤسف أن السبب وراء هذا كان مأسوًيا٬ وهو مقتل إيرانيين واحًدا تلو الآخر٬ أو «استشهادهم»٬ كما يحلو للدعايات الرسمية وصف الأمر٬ بعد أن جرى إرسالهم للقتال في حرب تبدو بلا نهاية داخل سوريا. وبذلك٬ تظهر داخل إيران خريطة جديدة لأرخبيل من مدن صغيرة تربطها سلسلة من الجنازات. وعليه٬ أصبحنا نعرف الآن من هم الرجال الذين يلقون حتفهم في سوريا. بوجه عام٬ هناك ثلاث مجموعات: تتألف الأولى من شباب عاجز عن إيجاد عمل مع وصول معدلات البطالة في الفئة العمرية بين 16 و25 إلى نحو 40 في المائة.

في المقابل٬ نجد أن الخدمة العسكرية في سوريا لمدة ثلاثة شهور٬ يمكن أن تثمر مكسًبا مالًيا في صورة شيك بقيمة 1500 دولار٬ علاوة على إضافة عنصر جديد لسيرتك الذاتية يزيدها بريًقا عند التقدم لعمل.

أما الفئة الثانية٬ فتتألف من ضباط متقاعدين من رتب مختلفة٬ بداية من عميد٬ وصولاً إلى جنرال بنجمة واحدة يبحثون عن عمل يضفي إثارة على حياتهم الرتيبة. ونظًرا لوجود ثلاثة هياكل عسكرية متوازية داخل إيران ­ الجيش النظامي والحرس الثوري الإسلامي و«الباسيج» ­ فإنها تواجه أعداًدا من الضباط أصحاب الرتب المتوسطة تفوق حاجتها. وعليه٬ تتقاعد أعداد كبيرة من الضباط٬ بينما لا يزالون في منتصف الأربعينات أو الخمسينات من العمر٬ مما يعني أنهم يعايشون عقوًدا من الحياة في ظل شعور بالتهميش.

وهنا٬ تأتي فترة خدمة مؤقتة داخل سوريا لتحافظ على لياقتهم البدنية٬ وتعيد بث النشاط والإثارة في حياتهم٬ وتحيي مشاعر الشباب والتفاؤل. جدير بالذكر٬ أنه قبل أسابيع من مقتله٬ تحدث الجنرال حسين حمداني عن شعوره كطفل داخل متجر للحلوى.

وأخيًرا٬ تضم الفئة الثالثة ضباًطا يمر مشوارهم المهني بمنحنى صعود٬ حيث يمكن للفتنانت كولونيل شاب ونشط التحرك سريًعا نحو نيل رتبة جنرال بنجمة واحدة بمروره عبر سوريا.

أيًضا٬ يمكن للجنرال صاحب النجمتين الحصول بسرعة على نجمة ثالثة من خلال المشاركة في سوريا٬ والمرور عبر سلسلة من ميادين القتال الحقيقية أو الخيالية٬ والتقاط بضع صور «سيلفي»٬ في محاولة لتعزيز المكانة الشخصية.

هذا تحديًدا ما فعله بنجاح كبير الجنرال قاسم سليماني٬ قائد «فيالق القدس» الخرافية٬ وأحد رواد فنون الترويج للذات٬ حيث تمكن بالفعل من اقتناص نجمة ثالثة. إلا أنه على الجانب الآخر نجد أنه إذا كنا نعلم٬ ولو بصورة تقريبية٬ فإننا لا ندري من يرسلهم. الشهر الماضي٬ قال جنرال عطاء الله صالحي٬ قائد الجيش النظامي٬ في تصريحات صحافية إنه لا يعلم من يرسل أفراًدا من وحدة «القلنسوة الخضراء» النخبوية إلى سوريا للقتال والموت هناك. وقال: «القوات المسلحة لا تشارك هناك. إن الضباط المشاركين في سوريا يجري إرسالهم من قبل مؤسسة ما».

واللافت أنه هنا استخدم لفظ «مؤسسة»٬ مصطلح سياسي٬ مقابل «وحدة»٬ وهو لفظ عسكري٬ في إشارة لرغبته في فضح المغامرة السورية باعتبارها مقامرة سياسية. واستطرد صالحي في شرح ما يعد أمًرا بديهًيا٬ بقوله إن مهمة الجيش حماية الحدود ضد الأعداء الأجانب٬ في إشارة ضمنية إلى أن القتال في إطار حروب أهلية مشتعلة بدول أخرى خارج نطاق مسؤوليات الجيش.

وبخلاف حقيقة أننا لا نعلم رسمًيا من يرسل هؤلاء الرجال للقتال في سوريا٬ وإن كان بمقدورنا التخمين٬ فإننا لا نعلم كذلك السبب وراء إرسالهم. جدير بالذكر أنه تبًعا لدستور الجمهورية الإسلامية٬ فإنه لا يمكن دخول الأمة في حرب من دون خوض عملية مجهدة٬ حيث تتعين مناقشة الأمر على مستوى مجلس الوزراء٬ وداخل المجلس الأعلى للأمن الوطني و«المجلس الإسلامي»٬ ويجب أن يجري في خضم هذه العملية تحديد عدة أمور: سبب الاشتباك في حرب٬ أهداف الحرب٬ الوسائل اللازمة لخوضها٬ من يتولى القيادة٬ من هم الأعداء ومن الحلفاء٬ ماهية آلية المراقبة والإشراف٬ وأخيًرا وليس آخًرا٬ كيف سيخدم مثل هذا الإجراء مصالح الأمة.

إلا أن شيًئا مما سبق لم يحدث٬ وفي حدود علمنا٬ فإنه حتى القيادات العسكرية الكبرى لا تدري تحديًدا حقيقة ما يجري. بفضل جنرال حمداني٬ نعلم أن وحدته وصلت إلى دمشق من دون مهمة محددة. من جانبها٬ لم تعلم المؤسسة العسكرية السورية سبب قدوم الإيرانيين٬ تبًعا لما ذكره حمداني٬ وبدوا متشككين في ما يكفي لأن يبقوهم بعيًدا عن «الأبواب الحديدية الثقيلة» حول مؤسساتهم العسكرية والسياسية.

ومع ذلك٬ تمّكن حمداني ورجاله في لحظة ما من إنقاذ الرئيس بشار الأسد٬ عندما بدا أنه كان على وشك السقوط. من ناحية أخرى٬ فإنه رغم اتفاق التعاون الدفاعي المبرم بين طهران ودمشق عام ٬2007 يبدو أنه لا تتوافر حتى الآن آلية محددة لعقد محادثات بين العسكريين من الجانبين٬ وتبادل الاستخبارات وتنسيق الخطط القتالية.

والواضح أن الكثير من الإيرانيين٬ بجانب أعداد غير معروفة من «المتطوعين» الأفغان والباكستانيين والعراقيين٬ ناهيك من مقاتلي الفرع اللبناني من «حزب الله»٬ يجري إرسالهم إلى ميادين القتل السورية في خضم حالة من الضباب والغموض. من جهته٬ أعلن «المرشد الأعلى» آية الله علي خامنئي أن هدفه الإبقاء على الأسد في السلطة.

إلا أن هذا القول يعد شديد الضآلة وبالغ الضخامة٬ في الوقت ذاته بالنسبة لهدف حرب ­ شديد الضآلة٬ لأنه من غير الواضح ما الذي سوف تجنيه طهران كأمة من وراء إنجاز هذا الهدف. أما مسألة أنه بالغ الضخامة٬ فتعود لأنه يبقى من الممكن أن يتوفى الأسد ببساطة لأسباب طبيعية٬ مما يترك إيران من دون هدف واضح من وراء حرب باهظة التكلفة.

كما أن الادعاء بأن المقاتلين الإيرانيين موجودون في سوريا كـ«مستشارين» يبدو غير مقنع٬ بالنظر إلى الأعداد الكبيرة التي تلقى حتفها أثناء القتال. ومن الصعب كذلك تصديق الادعاء بأن الإيرانيين ذهبوا إلى سوريا لحماية «الأضرحة» التي لم يكونوا على دراية بها حتى اندلاع الفوضى في سوريا. وعلى أية حال٬ فإن 95 في المائة من الإيرانيين الذين قتلوا في سوريا حتى الآن٬ فقدوا أرواحهم على بعد ما يصل إلى 200 كيلومتر عن أي ضريح.

وفي تحليل نشرته الشهر الماضي٬ لمحت صحيفة «كيهان» اليومية٬ التي يجري نشرها بإشراف من مكتب خامنئي٬ لما يبدو أنه استراتيجية ناشئة تجاه سوريا٬ حيث قالت إن إيران وجنودها المرتزقة٬ بمن فيهم «حزب الله» اللبناني و«فيلق فاطميون» الأفغاني ووحدات عراقية وباكستانية٬ تسيطر حالًيا على «الكثير من المواقع الاستراتيجية»٬ بجنوب ووسط سوريا.

والواضح أنه فيما يخص إيران٬ تبدو المغامرة السورية تجربة مأساوية باهظة التكلفة٬ ذلك أن المصالح الوطنية الإيرانية لا يمكن تعزيزها عبر قتل السوريين سعًيا وراء تحقيق هدف وحيد.

من جهته٬ أدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التفاوت الكبير بين التكاليف والمكاسب من وراء مشاركته في سوريا٬ ويحاول الآن التراجع عنها. وكلما أدركت قيادة طهران الأمر ذاته سريًعا٬ كان ذلك أفضل.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخريطة الإيرانية الجديدة للجنازات الخريطة الإيرانية الجديدة للجنازات



GMT 20:44 2024 الجمعة ,15 آذار/ مارس

أوكرانيا والعواقب غير المقصودة

GMT 05:49 2023 الإثنين ,04 كانون الأول / ديسمبر

شيطان التفاصيل

GMT 13:05 2023 السبت ,18 شباط / فبراير

أوكرانيا: العواقب غير المتعمدة

GMT 03:07 2023 الإثنين ,23 كانون الثاني / يناير

تقصير أمد الحرب الأوكرانية

GMT 16:57 2022 الثلاثاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

سؤال 2023... والحلف الروسي ـ الإيراني

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 10:23 2022 الثلاثاء ,17 أيار / مايو

توبة يتصدر ترند تويتر بعد عرض الحلقة 26

GMT 15:53 2024 الأحد ,14 كانون الثاني / يناير

بحث جديد يكشف العمر الافتراضي لبطارية "تسلا"

GMT 12:55 2021 الإثنين ,02 آب / أغسطس

وضعية للهاتف قد تدل على خيانة شريك الحياة

GMT 16:06 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

دكتوراه لراني شكرون بدرجة جيد جدا من جامعة الجنان
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon