بقلم: حسام عيتاني
في خلفية الصراع الأميركي - الصيني الجيوسياسي والاقتصادي، يكمن صراع آخر لا يقل أهمية في حسم مستقبل العالم؛ هو الصراع على «القيم الكونية» التي تتبناها حالياً حكومات الغرب الليبرالي وتتعرض لهجوم متعاظم من جهات عدة. وتبدو بعض الساحات العربية من بين تلك التي تشن منها الحرب على القيم تلك.
ثمة تاريخ طويل لاتخاذ «القيم الكونية» بُعداً سياسياً وانتقالها من الإجماع البشري على ضرورة التمسك بالأخلاق والاعتراف بتميز الإنسان عن باقي المخلوقات من خلال تطور مفاهيم التمدن والتحضر والعلاقات الإنسانية السوية، إلى مجموعة من المحددات التي زرعت الفلسفة اليونانية بذورها الأولى وارتقت لتصل مع الحداثة الأوروبية إلى حد النظر إلى نفسها نهجاً للسلوك السياسي والاجتماعي الذي يحمي البشر من افتراس بعضهم بعضاً ويجلب السلام الضائع بعد قرون من الحروب الدينية والنزاعات على العروش في القارة القديمة. حكم القانون، الحرية، تداول السلطة سلمياً، حق التعبير عن الرأي وحقوق الإنسان الأخرى، هي من الأسس التي وضعها مفكرو التنوير الأوروبي وسارت في طرق وعرة وتعرضت لاختبارات كثيرة إلى أن أصبحت من الوجاهة بحيث فرضت نفسها على ميثاق الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
في المقابل، لم يتوقف يوماً نقد القيم هذه وتقديم البراهين على قلة ما تحققه من عدالة. وغالباً ما كان المصدر الأوروبي لدعاوى الكونية يوضع في تعارض مع التاريخ الاستعماري الغربي وما رافقه من فظائع في حق الشعوب المستعمَرة التي تعرضت للاحتلال والنهب والإبادة في آسيا وأفريقيا وأميركا. الأوروبيون؛ من جهتهم، لم يروا أثناء حملاتهم الاستعمارية الهائلة وإخضاعهم قارات وبلداناً شاسعة مثل الصين والهند لمتطلبات تجارتهم وأولويات ربحهم على كل أمر آخر... تناقضاً بين قيمهم وممارساتهم الاستعمارية. لقد كانوا واضحين في قسمة العالم إلى عالمين؛ واحد متحضر، وآخر متوحش. ولكل منهما أسلوب في التعامل. لم يعدّ أعضاء مجلس العموم البريطاني في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، الديمقراطية؛ التي كانوا يحرصون عليها، نقيضاً لما تقوم به «شركة الهند الشرقية» من تدمير منهجي لكل وسائل الإنتاج في الهند، أو لحربي الأفيون التي فرضت عبرهما بريطانيا على الصين استيراد الأفيون ونشره بين مواطنيها؛ ما تحول كارثة لم تتوقف تداعياتها إلا بعد قرن من الزمن... وسوى ذلك من الأمثلة كاعتبار الملك البلجيكي ليوبولد الثاني الكونغو مزرعة خاصة له يتصرف فيها وفي سكانها كما يشاء.
يتأسس ضمن هذا السياق الاعتراض على السمة الكونية للقيم المذكورة. هناك من يقول إن الغرب يريد أن يستعمرنا وينهبنا ساعة وأن يفرض علينا وجهة نظره في حقوق الإنسان والحريات في ساعة ثانية، تبعاً لمصالحه ووفقاً لما يعدّه هو تقدماً أو تخلفاً. وإن في فكرة «القيم الكونية» ذاتها عودة صفيقة إلى المركزية الأوروبية التي ترفض اليوم حق الشعوب والحكومات غير الأوروبية في اختيار شكل الحكم الذي يناسبها في منأى عن إملاءات الغرب. ناهيك بأن القيم تلك تستند، في العمق، إلى الرأسمالية التي تنطوي - وفق هذا الرأي - على انتقاص من إنسانية الإنسان.
تمثل الصين موقعاً متقدماً في عملية نفي كونية قيم الديمقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان. وبعد عقود من تبنيها آراء ماو تسي تونغ المستندة إلى تفسير «عالم ثالثي» للنظرية الماركسية، تندمج فيه فكرة التقدم الاجتماعي والاقتصادي بالدور الطليعي للحزب الشيوعي الحاكم، طرحت القيادة الصينية آراء أشد محافظة تستند إلى التراث التقليدي الصيني وفلسفة كونفوشيوس، كاحترام التقاليد والخضوع للسلطة، وصولاً إلى ما يشبه عبادة الدولة.
وبالتزامن مع أزمة الديمقراطية الليبرالية في الغرب، ظهرت في أوروبا فروع عدة تُعلي من شأن الاحتكام إلى الإرث الأوراسي في روسيا والعودة إلى قيم الكنيسة الكاثوليكية في بولندا وأحلام استعادة مكانة إمبراطوريات آفلة كما في تركيا. التوجه الغربي العام بالانسحاب من الساحات التي تشهد صراعات بعضها دموي وعنيف وأغلبها معقد ويستنزف المال والوقت، يتعارض مع الإعلانات المتكررة في الاجتماعات عن الالتزام بحقوق الإنسان والحريات وحكم القانون. ويفتح، بالتالي، باباً جديداً للتصويب على «النفاق الغربي» وازدواج المعايير والكيل بمكيالين.
في المقابل؛ لا يبدو الطلب على الديمقراطية عالياً في الدول النامية؛ ومنها عالمنا العربي. ذاك أن أفكاراً عن الطليعة الثورية الواعية والحزب القائد والرئيس الضرورة لا تكف عن اتخاذ أشكال جديدة؛ بل إنها تطل برأسها في كل مرة تبرز الآمال في الخروج من عصور الديكتاتوريات. لعل حل هذه المعضلة يتلخص في النظر إلى ما تنتجه المجتمعات العربية وصناعاتها وزراعاتها واقتصادها السياسي تمهيداً لا بد منه لكسر حلقات مفرغة من البؤس تتجدد من دون نهاية.