بقلم: حسام عيتاني
بعد عامين على بداية مظاهرات «17 تشرين» في لبنان، عاد المشهد إلى حالته المألوفة. الانتفاضة التي بشّر أصحابها بالخروج من لعنة الحروب الأهلية القدرية، تبدو اليوم بحشودها وجماهيرها وشعاراتها وأغنياتها بعيدة جداً عن يوميات استأنفت مسارها الطائفي المسلح.
إحباط اللبنانيين ويأسهم مفهومان. بل متوقعان. ذاك أن تحطم أحلام ووعود الانتفاضة بالقضاء على الفساد ووضع حد للزبائنية وسيطرة طبقة سياسية تعتاش من جثث الأبرياء وعلى التحريض على العنف وعلى الاغتيال، لم ينجم عنهما غير صعود التوحش على نحو يذكّر بأحلك أيام التناحر الأهلي بين 1975 و1990. الكل مدعو إلى المذبحة والكل يستعد لها. لا ضحايا هنا. لا أطفال وعجزة ومساكين. الجميع يضع الخناجر بين أشداقه كأعتى القتلة. رائحة الدم اختلطت بهواء لوثه وقود مولدات الكهرباء في أحياء الفقراء، فيما يجلس سياسيون سود القلوب في قصورهم ومخابئهم يحصون الأرباح والخسائر.
منذ عقود، باتت مقولة ارتباط الوظيفة الاقتصادية والسياسية الخارجية للبنان بموقع الطوائف في سياسته الداخلية من المسلّمات في علم الاجتماع السياسي اللبناني. المؤلفات التي وضعت في ستينات القرن الماضي أثبتت الصلة بين التغيير الذي حملته الثورة الصناعية الأوروبية في القرن التاسع عشر وطلبها للمواد الخام وشبه المُصنّعة من المشرق (لبنان وسوريا وفلسطين) بتشكّل فئات اجتماعية جديدة راحت تؤكد على هويتها بالتزامن مع ارتقائها الاجتماعي وترسيخ صلتها بالغرب. الحروب التي امتدت بين 1840 و1860. كانت من وجهة النظر، علامة على مقاومة المجتمعات التقليدية الزراعية القائمة على علاقات إنتاج إقطاعية، لبوادر الانقلاب الذي حملته رأسمالية وليدة إلى الشواطئ الجنوبية للبحر المتوسط.
حروب سبعينات وثمانينات القرن الماضي انطوت على مكون مشابه. الطوائف التي لم تحضر صراعات جبل لبنان القديمة، طالبت - بعدما رأت في نفسها الكفاءة والاستحقاق - بالشراكة في سلطة استقرت بين أيدي ورثة نظام المتصرفية والاحتلال الفرنسي. لا يغيب العامل العربي والدولي عن هذه اللوحة. فلبنان الذي استفاد اقتصادياً من إغلاق مرافئ فلسطين والتأميمات في الدول العربية، رفض تحمل حصته من أكلاف الصراع العربي - الإسرائيلي. بيد أن مكر التاريخ جعل اللبنانيين يدفعون حصتهم أضعافاً مضاعفة بتدمير بلدهم في حروب أهلية وإقليمية ودولية فاضت فيها الدماء حتى أغرقت كل محاولة لفهم الأسباب الواقعية للاقتتال.
بعد ثلاثين عاماً من اتفاق الطائف والنهاية الرسمية للحرب الأهلية، لم يكن لبنان بعد قد صاغ وظيفة تؤهله للانضمام إلى عالم ما بعد الحرب الباردة. قطار التاريخ أطلق صافرته وترك المسافر اللبناني على رصيف المحطة: لا دور اقتصادي ولا بنية سياسية مرنة تؤهله لأداء مهمات في بيئة سائلة ولا فهم حقيقي لحجم الخسائر التي نزلت بموقع لبنان أثناء انشغاله بجولات القتال واستيراد السلاح.
محاولات إحياء الدور السابق على الحرب الأهلية وجعل لبنان مركزاً اقتصادياً لشرق أوسطٍ يسوده السلام، تختصرها اليوم المباني الفارغة والمهجورة في وسط بيروت التجاري الذي عاد خاوياً وموحشاً تماماً كما كان أثناء الحرب الأهلية لكن مع دمار خلّفه تفجير الرابع من أغسطس (آب) 2020 عوضاً عن الحطام الذي صنعه مسلحو الميليشيات الطائفية وحلفاؤهم. وما زال الكثير من المتاجر في وسط العاصمة المنكوب مرتين، مرة بالشركة العقارية التي استولت عليه بزعم تحويله مركزاً تجارياً عالمياً، ومرة بتركه ميتاً وخالياً من الحركة، ما زال شاهداً على جريمة التفجير، بمحلاته التي لم يتكلف شاغلوها عناء إصلاح أبوابها المنتفخة بفعل عصف الانفجار الهائل. ولعل وسط بيروت يستحق من يمر به ويصف حالته، مستوحياً ما كتبه والتر بنيامين عن باريس وممراتها المغطاة وواجهاتها، إنما في اتجاه معاكس.
جاءت «مظاهرات تشرين» وفشلها اللاحق في تحقيق شعاراتها، ليؤكدا عقم الصيغة التي اعتمدتها الطبقة السياسية في إدارة الاقتصاد وفي التبعية للخارج وفي تجاهل الاتجاهات التي سار فيها الاجتماع اللبناني. لكن على خلاف حروب 1840 - 1860 و1975 - 1990 التي ساهم في اندلاعها التعارض بين بنية سياسية متصلبة وبين ضغط التغيير الاقتصادي - الاجتماعي، يبدو واقع ما بعد «انتفاضة تشرين 2019» كنكوص إلى حالة التحلل من الالتزام بالعقد الذي يضم اللبنانيين في إطار دولة واحدة وبداية بحث عن سبل للبقاء بحده الأدنى القريب من بقاء الإنسان الأول في عالم معادٍ وغامض. الحشود المسلحة الغاضبة التي شوهدت أثناء اشتباكات الأسبوع الماضي، هي النتيجة الوحيدة للصمت المسيطر على وسط بيروت. صورتا المسلحين والأسواق الخالية تستحقان أن تقترنا ببعضهما قران النقيضين.
ازدهار الخطاب الهوياتي الطائفي، بعد ركوده أثناء «مظاهرات تشرين»، يعني بين ما يعنيه أن أساليب عيش اللبنانيين عادت لترتبط بأمان الجماعات المغلقة بعدما تخلت عن حلم الانفتاح على الآخر وتقبله والعيش معه. وعادت لتفضّل انتظار ما يجود به المغتربون، على الانخراط في إصلاح مكلف للاقتصاد المحلي. بكلمات ثانية، أثبتت الأوهام أنها قابلة للتصديق أكثر من الوقائع.