بقلم: حسام عيتاني
تشارَك السودان وتونس نجاحاً نسبياً في الخروج من حكم الاستبداد من خلال ثورتين شعبيتين أطاحتا نظامين قاما على تمكين أجهزة الأمن والجيش من المجتمع وقمع حرياته، على مدى عقود. ويتشارك البلدان اليوم أزمتين سياسيتين عميقتين تحملان خطر العودة إلى حكم الفرد المتسلط والعسكر.
ما زال مبكراً الحكم على المسار الذي سيمضي السودان وتونس فيه. بيد أن المقدمات تبرر قراءة غير متفائلة بمستقبل الانتقال الديمقراطي في البلدين. وإذا نحينا جانباً الفوارق بين البلدين، وهي كبيرة، وظروفهما، قد نجد عدداً من التشابهات التي تنبئ، قبل التكهنات والأحكام المسبقة، بالصعوبة الشديدة التي تكتنف طريق الخروج من الاستعصاء الحالي. ثمة اختلاف كبير في التاريخ السياسي للبلدين؛ علمانية بورقيبة في تونس بعد الاستقلال مقابل محاولات تطبيق الشريعة في السودان أثناء حكم جعفر نميري ثم تولي الإسلاميين الحكم مع «ثورة الإنقاذ» في 1989. دور شبه معدوم للجيش التونسي في الحياة السياسية على النقيض من تصدر القوات المسلحة السودانية المشهد في البلاد منذ الاستقلال. استقرار نسبي وارتباط بالاقتصاد الغربي من خلال السياحة وبعض الصناعات المنجمية والتحويلية في تونس، مقابل حروب أهلية وانفصال الجنوب ومذابح عرقية في دارفور والنوبة وفقر مزمن في عموم السودان. كل هذا قبل أن نصل إلى التباينات بين التركيبتين الاجتماعيتين والثقافيتين للبلدين.
لكن، في المقابل، نجح السودانيون في 2019 بعد مظاهرات شعبية حاشدة وفي أعقاب اتحاد القوى النقابية والمهنية مع المعارضة السياسية ومنظمات المجتمع المدني، في إبعاد عمر البشير وأنصاره عن سلطة قبضوا عليها 30 عاماً وأوردت السودان موارد التهلكة والعوز والدمار. وشكّل السودان بذلك الإنجاز الوحيد لما سُمّي «الموجة الثانية من الثورات العربية» التي شملت العراق ولبنان والجزائر والسودان في عامي 2019 و2020. وانضم بالتالي إلى تونس كثاني تجربة على طريق بناء حكم ديمقراطي تعددي يطمح إلى الاستناد إلى شرعيتين دستورية وشعبية، تضعان حداً للشرعيات «التحررية والثورية» التي قالت بها أنظمة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي.
ووسط مناخ عام ينحو صوب التخلص من كل ما حمله العقد الماضي من ثورات فشل أكثرها، وفي خضم عمليات تبييض صفحات نظام بشار الأسد في سوريا وإعادة تأهيله للانضمام إلى الجامعة العربية تمهيداً لاختراع وظائف ومهمات دولية جديدة له، وفي ظل التبرئة التي يسوّق لها الأوروبيون للجماعة الحاكمة في لبنان من مسؤولياتها عن الانهيار الاقتصادي والكارثة الاجتماعية اللذين أصابا البلد، وبعد غض الطرْف عن إغراق «حركة تشرين» العراقية في الدماء والاغتيالات التي نفذتها «الفصائل الولائية» التابعة لإيران وحالت دون ظهور نظام أكثر استقلالاً وأقل فساداً في بغداد، يبدو القلق مشروعاً بل ضرورياً حيال المستقبل الذي يُرسم لتونس والسودان.
المشكلة في أحداث «25 جويليه» (يوليو/ تموز) تكمن في أن تولي الرئيس قيس سعيّد مقاليد السلطات التشريعية والتنفيذية يعيد إلى الواجهة مسألة الرقابة على السلطة وخضوعها للمساءلة الشعبية والديمقراطية. وهذه قضية مبدأ في كل نظام يقول إنه خرج من نطاق الاستبداد الفرديّ والأقليّ. المشكلات التي عاشتها تونس عشية إقدام الرئيس سعيد على تجميد أعمال البرلمان وإقالة الحكومة السابقة كانت تنبئ بوصول البلاد إلى طريق مسدود، تضافرت سياسات حركة «النهضة» مع الوضع الاقتصادي المتردي والانقسامات في صفوف القوى السياسية على جعلها (المشكلات) أشبه ما تكون بالمعضلة غير القابلة للحل.
القول إن سلوك الرئيس التونسي كان حتمياً وإنه ما من بديل كان ليكسر الحلقة المفرغة التي دخلتها البلاد، تم رفضه من قِبل البعض بذريعة أن الميزة الأولى لكل نظام يعتمد الديمقراطية منهج حكم هي توفر البدائل والقدرة على استنباطها واستخراجها من لدن المعطى السياسي الراهن.
في السودان، أعلن رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان في أعقاب إحباط محاولة انقلابية قبل أسبوعين أن الجيش «هو الوصي» على البلاد و«لا يمكن لأي جهة إبعاده» قبل أن تتفق مجموعة من الشخصيات والأحزاب على تشكيل هيئة منفصلة عن تجمع القوى المدنية والمهنية الذي يمثل المكون المدني في إدارة الفترة الانتقالية التي تتولى الحكم في انتظار إجراء انتخابات تشريعية في 2024.
وعلى الرغم من تمسك البرهان بالانتخابات، فإن الحديث عن وصاية عسكرية على السودان يصدر من ذات الخلفية التي اختزلت كل مؤسسات الدولة بالقوات المسلحة في كثير من الدول العربية ودول العالم الثالث. ذاك أن الجيش يصور نفسه على أنه الجهة الوحيدة التي تتمتع بالتنظيم والانضباط والقدرة على الفعل على نقيض المؤسسات المدنية المترهلة والفاسدة وما يدخل في هذا الباب من تبخيس الحكم المدني. غني عن البيان أن التمسك بخطاب كهذا يثير قلق المكون المدني السوداني وكل من يأمل في استقرار السودان وازدهاره وطي صفحة الماضي المضطرب والعنيف.
مصير التجربتين السودانية والتونسية تتحكم فيه توازنات قوى ليست كلها محلية وداخلية، في وقت لا يبدي العالم حرصاً يذكر على مصالح الشعوب، مستعيداً تاريخاً طويلاً من دعم الديكتاتوريات بذرائع المصالح الاقتصادية والجيوسياسية.