نقد الابن، لا الأب

نقد الابن، لا الأب

نقد الابن، لا الأب

 لبنان اليوم -

نقد الابن، لا الأب

حازم صاغية

 إذا كانت فوضى الحقبة الراهنة، بأوسع المعاني التي تشملها كلمة «فوضى»، قد أطلقت تنظيم «داعش»، فهي أيضاً أطلقت أهاجي لـ «داعش» لا يكاد أحد يتعفّف عنها. لكنّ الأهاجي لا تصنع نقداً، سيّما حين ينحصر الهجّاءون - النقّاد في تناول النتائج، لا المقدّمات.

و»داعش» نتيجةٌ في آخر المطاف، لا مقدّمة، نتيجةٌ كان الاستبداد العسكريّ والمؤدلج أحد أبرز مقدّماتها.

من هنا، قد تكون المقارنة لافتةً بين الهجائيّة التي استُقبلت بها ولادة «داعش»، والاحتفاليّة التي استُقبل بها ذات مرّة أبوها الاستبداديّ، والذي لا يزال نقده العميق، بل مجرّد الإقرار بأبوّته، مسكوتاً عنه.

فقبل يومين، وهذا مثَل غير حصريّ، استرجعت سوريّة ذكرى الانقلاب البعثيّ الذي عُرف بـ8 آذار (مارس) 1963، والذي أسّس النظام المستمرّ مذّاك، على رغم التغيّرات والتحوّلات الضخمة التي عرفها من داخل الخليّة الواحدة.

وإذا راجعنا صحف تلك المرحلة وقعنا على أوصاف حظي بها ذاك الانقلاب من قبيل: «إنهاء العهد الانفصاليّ البغيض»، «القضاء على أوكار الخيانة والعمالة»، «إعادة الوحدة مع مصر»، «الاستعداد لتحرير فلسطين». وفقط بعد انفجار الخلاف بين البعثيّين وجمال عبد الناصر، بدأ الهجوم على الانقلاب إيّاه بوصفه «مؤامرة على الوحدة» و»خيانةً للقضيّة» و»تنفيذاً للمخطّط الاستعماريّ». لكنّ مدح الفترة الأولى، مثله مثل قدح الفترة الثانية، لم يلحظ مسألة الحرّيّة أو خيار السوريّين، ولم يجد فيها ما يستحقّ التوقّف والتأمّل.

شيء مشابه كان قد حصل قبلذاك مع الناصريّة. فلئن أثار انقلاب يوليو 1952 بعض الانتقادات في مصر والعالم العربيّ بسبب قضمه الحياة الحزبيّة، فهذا ما شرع يختفي مع تحقيق الجلاء في 1954، وخصوصاً مع حرب السويس في 1956. مذّاك صار كلّ نقد لعبد الناصر، تمسّكاً بالحرّيّة أو طلباً للديموقراطيّة، يُعدّ هرطقة وخيانة للعروبة ولزعيمها الأوحد.

وحين كان صدّام حسين يخوض حروبه يمنةً ويسرةً، بدا من المستحيل لمؤيّديه تأييده باسم الحرّيّة، وهذا بديهيّ، لكنْ بدا أيضاً من الصعب لمعارضيه معارضته باسم الحرّيّة. فهو قد يُعارَض لأنّه تنكّر للعروبة وتحرير فلسطين بحربه على إيران، أو لأنّه أخلّ بالتزامه حيال الجبهة الوطنيّة مع الشيوعيّين، أو لأنّه أضعف التضامن العربيّ بغزوه الكويت. أمّا الحرّيّة فلا ترد إلاّ في أسفل القائمة.

وهذا كي لا نذكّر بتجارب من العنف «الطليعيّ»، كحكم «الطبقة العاملة» في جنوب اليمن، والحروب التدميريّة التي استدعتها الثورة الفلسطينيّة، والتمجيد النيكروفيليّ لـ»المليون شهيد» في الجزائر. فهذه سياقات وأحداث لم تصدر فحسب عن قرارات مستبدّة، بل ضربت في العنف أرقاماً قياسيّة تبحث دائماً عمّن يكسرها. لقد تراكم، والحال هذه، فائض عنفيّ وإدمان على العنف، بل عبادة للاهوته باسم الثورة أو التحرير.

وقصارى القول إنّ نقد الابن الذي هو «داعش» لم يسبقه إلاّ الاحتفال بأحد أبرز آبائه، وهو الاستبداد، بينما لا يزال محرّماً حتّى الآن التعرّض للقضايا «المصيريّة» التي ولّدها الاستبداد الأب قبل أن يعمّمها. والأمر نفسه يصحّ في ما خصّ آباء «داعش» الآخرين من أفكار وممارسات قروسطيّة لا تزال تُصنّف في خانة المقدّس، ولا تزال تُعتَبَر بعضاً من «أصالتنا» و»خصوصيّتنا» الحميمتين.

لقد تناول «النقدُ» الرائج ابناً من دون أب، ومن دون نقد الإجماعات التي تلتقي حولها الكثرة الكاثرة ولا تشكّ بها إلاّ القلّة القليلة. والنقد الناقص، وهو أقرب إلى أن يكون هجاء، يسفّ أحياناً فيغدو كذاك النقد الوحيد الذي سمحت به بلاطات القرون الوسطى، والذي ما كانت لتسمح به إلاّ لأنّه... تهريج.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نقد الابن، لا الأب نقد الابن، لا الأب



GMT 18:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مسرح القيامة

GMT 18:15 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان... و«اليوم التالي»

GMT 18:09 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لماذا توثيق «الصحوة» ضرورة وليس ترَفاً!؟

GMT 18:05 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 18:00 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ذكرى شهداء الروضة!

GMT 17:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الشريك المخالف

GMT 17:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 17:48 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

اليوم العالمى للقضاء على العنف ضد المرأة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 10:23 2022 الثلاثاء ,17 أيار / مايو

توبة يتصدر ترند تويتر بعد عرض الحلقة 26

GMT 15:53 2024 الأحد ,14 كانون الثاني / يناير

بحث جديد يكشف العمر الافتراضي لبطارية "تسلا"

GMT 12:55 2021 الإثنين ,02 آب / أغسطس

وضعية للهاتف قد تدل على خيانة شريك الحياة

GMT 16:06 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

دكتوراه لراني شكرون بدرجة جيد جدا من جامعة الجنان
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon