نتخيّل ما لم يحصل لمحاكمة ما يحصل
أخر الأخبار

نتخيّل ما لم يحصل لمحاكمة ما يحصل...

نتخيّل ما لم يحصل لمحاكمة ما يحصل...

 لبنان اليوم -

نتخيّل ما لم يحصل لمحاكمة ما يحصل

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

فيما الموت والعقاب الجماعيّ والتهجير تفتك بغزّة، وفيما تبدو السياسة أقرب إلى الاستحالة، لا بأس بأن نتخيّل لوهلة ما لم يحصل لمحاكمة ما يحصل. وما يحصل هو الأسوأ على الأصعدة كلّها وفي الأمكنة جميعاً، لا سيّما في تلك الرقعة الصغيرة من الأرض التي يحلّ على سكّانها وأطفالها الكثيرين ظلم يغري بالكفر بالعالم والقيم وكلّ شيء آخر تواضعنا على رفعه عالياً.

ومن قبيل التخيّل نتخيّل مثلاً أنّ إسرائيل، في ردّها على عمليّة «طوفان الأقصى»، ضربت مواقع محدّدة لـ«حماس» واعتمدت برنامجاً لاغتيال قادتها، على غرار ما فعلته بعد عمليّة ميونيخ في 1972... أي أنّ القاعدة في سلوكها كان استهداف «حماس» برموزها ومقاتليها وتجنّب إيذاء المدنيّين في قطاع غزّة...

ولنتخيّل، في المقابل، أنّ «طوفان الأقصى» اقتصرت ضرباته، قتلاً وخطفاً، على العسكريّين والمسلّحين وحدهم، فلم تتجاوزهم إلى المدنيّين والمدنيّات...

أيٌّ من هذين الافتراضين كان سيؤدّي إلى التعاطف مع الطرف المعنيّ، والتعاطفُ كان ليترك آثاره على أقسام واسعة من الضفّة المقابلة. وكلٌّ من هذين الافتراضين كان سيعمّق الشرخ السياسيّ داخل الجماعة الواحدة، وهذا ناهيك عن تجنيب البشر الآلام المُرّة التي أُنزلت بهم.

فعمليّة حمساويّة من النوع الذي لم يحصل كانت كفيلة بتوسيع دائرة المتعاطفين الإسرائيليّين مع معاناة أهل غزّة، ورفع درجة اهتمام العالم بقضيّتهم وعدالتها وإلحاح حلّها، وبدفع التناقضات في إسرائيل ما بين دينيّين وعلمانيّين، وقوميّين ويساريّين وليبراليّين، وهي تناقضات جبّارة، خطوات أبعد إلى الأمام.

وشيء مماثل كان سيحصل على الضفّتين الفلسطينيّة والعربيّة لو أنّ عمليّة إسرائيليّة من النوع الذي لم يحصل قد حصلت. هكذا كانت ستظهر أصوات أكثر وأعلى تميّز نفسها عن «حماس»، وترى في سلوكها توريطاً خطيراً ومُضرّاً وقابلاً للتجنّب...

لكنّ كلاًّ من السلوكين، الفعليّ والمُتخيَّل، يستند إلى فهم معيّن للسياسة وللإنسان.

فالعقل الذي تحكّم بما حصل، وفي وجهيه الإسرائيليّ والعربيّ، يستبعد السياسة كأداة تبادل بين جماعتين متنازعتين، ويستبعد الشراكة المتعادلة في إنسانيّة واحدة. فالـ«نحن» (كلّ نحن) هي دائماً أرقى من الـ«هُم» (كلّ هم). ولمّا كان الآخر كلّه وحشاً، بات ينبغي أن ينصبّ عليه الموت من غير تمييز، فيما الصياغات الملائمة لصراع كهذا هي بالضرورة «صراع حضارات» و«صراع أديان» و«صراع قبائل»... وبالمعنى نفسه، يغدو المعيار الأهمّ لقياس الوطنيّة (والشرف والكرامة إلخ...) مدى انضواء الفرد في الجماعة وفي موقفها المعلن، وغضّ نظره عن أخطائها أو تركيبها أو وعيها، ومن ثمّ ابتلاع كلّ موقف نقديّ يتمايز فيه صاحبه عن اللغة السائدة. فمثال الشخص الجيّد هو الجنديّ أو الجنديّ الاحتياطيّ أو من يهلّل للجنديّ أو للمقاتل.

ولن يكون صعباً البحث عن جذور موقف كهذا في القوميّة الصهيونيّة المتطرّفة وفي إسلام «حماس» الراديكاليّ، وفي تاريخهما الدمويّ، أو في الإخفاقات الهائلة لحكم بنيامين نتانياهو وائتلافه التعيس كما في سلطة «حماس» على قطاع غزّة.

فالسياسة والوعي الإنسانيّ، ومن ورائهما العقل، هي الضحايا غير المنظورة للحروب المفتوحة، حيث البشر الآخرون أهداف مشروعة، والتعصّب على أنواعه عقيدة الجميع، والعزوف عن النقد الذاتي ممارسة جامعة وفاضلة.

وفي مناخ كهذا يسطع على نطاق كونيّ رُهاب الإسلام واللاساميّة، فيصلان إلى أبعد زوايا الأرض، جنباً إلى جنب إعلاء «ديننا وقيمنا» بوصفها المرجع الأوحد لسلوكنا والحَكَم الأوحد عليه. وإذ تنتشر لغة تحضّ على الانفصال في القيم والمعارف، فتبوّب تلك القيم في نفس المراتب التي تبوّب فيها البشر، تتقدّم الدعوة إلى استخدام أكثر أنواع السلاح فتكاً لأنّ «الوحش» لا يعالَج بغير التوحّش.

والحال أنّ «الحرب الحضاريّة» التي يزعم البعض حصولها هي ما ينبغي أن يُبذل المستحيل كي لا تحصل. فتوازن القوى بينـ«نا» وبين «الغرب» مختلّ على نحو كاسح، لا في القوّة فحسب، بل في كلّ شيء على الإطلاق. ويُستحسن ألاّ يُعمينا الغضب و«الحرب الحضاريّة» عن أنّ منطقتنا تعيش عدداً من «حروب الإخوة» الطاحنة في سوريّا واليمن وليبيا وتونس. أمّا على جبهة الإسرائيليّين، فقد لا يقتصر هذا التشدّق بالحضاريّات على شَقّ العالم ما بين مسلمين ويهود، إذ قد ينتهي به مطاف التقهقر إلى الوراء إلى إيقاظ مسيحيّة قديمة لم تنسَ خصومتها مع اليهود، فضلاً عن المسلمين.

لقد قطع تديين الصراع شوطاً بعيداً، وصار من الصعب جدّاً ردّه إلى السياسة التي ينتمي إليها هذا الصراع من حيث المبدأ. يضاعف تسريع هذه الوجهة أنّ العنف الدائر لا يضع في أفقه مشروعاً سياسيّاً تُختتم به الحرب. وإذ تُدمّر غزّة، وتتردّى المنطقة بأسرها، يصاب العالم كلّه بانتكاسة يتبدّى أحد أشكالها في الانحياز الجارف لإسرائيل، وهذا في ظلّ تصاعد شعبويّ عابر للقارّات، وأوضاع اقتصاديّة سيّئة يُرجّح أن تزيد الحرب السيّئة سوءها أضعافاً.

إنّ الخوف المبرّر اليوم، الذي يتكّئ على العنف الأعمى اتّكاءه على الكلام المُبصر، هو أن يغدو «ما يحصل» طريقة حياة وطريقة تفكير تتجاوزان رقعة الحرب الفلسطينيّة – الإسرائيليّة إلى أجزاء أخرى في هذا العالم وزوايا أخرى في عقله.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نتخيّل ما لم يحصل لمحاكمة ما يحصل نتخيّل ما لم يحصل لمحاكمة ما يحصل



GMT 19:57 2025 الخميس ,20 شباط / فبراير

من «الست» إلى «بوب ديلان» كيف نروى الحكاية؟

GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 19:29 2025 الأربعاء ,05 شباط / فبراير

الكتب الأكثر مبيعًا

GMT 11:46 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

الرئيس السيسى والتعليم!

GMT 19:13 2025 الثلاثاء ,21 كانون الثاني / يناير

أصالة ودريد فى «جوى أورد»!

إطلالات محتشمة بلمسات الريش وألوان ربيعية تزين إطلالات النجمات

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 13:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يحمل إليك هذا اليوم كمّاً من النقاشات الجيدة

GMT 11:27 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

تركز انشغالك هذا اليوم على الشؤون المالية

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 13:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج السرطان الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 13:29 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 21:58 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 07:30 2025 الأحد ,16 آذار/ مارس

مفاهيم خاطئة شائعة حول ديكور المنزل

GMT 12:53 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الجوزاء الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 11:34 2016 الجمعة ,02 كانون الأول / ديسمبر

كيك الليمون الشتوية

GMT 15:48 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

بلماضي يمتدح زروقي ويكشف سر تجاهل توبة

GMT 13:04 2022 الأربعاء ,20 تموز / يوليو

مقدار الماء الذي يحتاجه الجسم في الطقس الحار
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon