بقلم : حازم صاغية
تأخّر سداد الدَين لجوزيف أبو خليل الذي غادرنا قبل أسبوعين ونيَّف، بعدما تجاوز التسعين. فاللبنانيّون اليوم تستهلكهم مسائل لا تتيح أداء العزاء في موعده، أو حتَّى كتابة القصَّة التي تجمع بين رحيل الراحلين الأفراد واحتمالات الرحيل التي تحيق بوطنهم القديم. ولأبو خليل قصّة، وأنا لي قصّة معه ربّما استحقّت أن تُروى.
فإبَّان «حرب السنتين»، كنت يساريّاً أعمل في جريدة «السفير». لكنّني، لغرض السجال، دأبت بلا انقطاع على قراءة افتتاحيّة «العمل»، الجريدة الناطقة بلسان حزبه. الافتتاحيّة كان عنوانها الجامع «حصاد الأيّام»، وكاتبها كان صاحب اسم مجهول: جوزيف أبو خليل. ما كنت أعرفه عنه هو ما كان يعرفه كلّ شخص آخر: قيادي في حزب الكتائب، يكتب التصريح اليومي لرئيسه بيار الجميّل. لكنْ بينما كان هذا التصريح مملاًّ ووعظيّاً، كانت الافتتاحيّة تتلوّى في مراقصة الحدث المتغيّر، يستوقفها التفصيل الصغير من غير أن تخون اللوحة الكبرى.
هكذا أثارت افتتاحيّة «العمل»، فيَّ وفي بعض مُجايليَّ وبعض من يشبهونني سياسياً، شعورين متعارضين: التعالي والحسد. أمّا التعالي فمردّه إلى أنّنا كنّا مسكونين بالكتابات «النظريّة» الفخيمة للماركسيين وتلاميذهم والمنشقّين عنهم، نزدري ذاك التناول «الصحافي» الذي نعدّه امتداداً للكلام الشفوي المتداوَل، أو «الحكي»، كما ننسبه إلى جيل قديم. وأمّا الحسد فمصدره أنّ تأثير تلك اللغة أكبر بمئات المرّات من تأثير ما نكتب ظانّين أنّه يواكب «حركة التاريخ». كلام أبو خليل البسيط كان يذهب مباشرة إلى الموضوع، وهو، بقياس المعايير التي تحكم السجالات الدائرة حينذاك، يسلّح جمهوره بالحجج التي هو في أمسّ الحاجة إليها. كلامنا، في المقابل، لم يكن معنيّاً بمصادقة القرّاء، دع جانباً تسليحهم بالحجّة. وربّما كان أحد مفاتيح الاختلاف ما قاله لي ذات مرّة، وكانت معرفتي به توثّقت: «إنكم تحاولون كتابة أفكار كثيرة في مقال واحد، كأنّكم تريدون القول إنّكم تعرفون. المطلوب، في رأيي، كتابة فكرة واحدة في كلّ مقال، فكرة تبتغي التعريف بالفكرة نفسها، لا بمعرفة صاحبها... هذه جريدة وليست كتاباً».
افتتاحيّة أبو خليل اليوميّة لم تكن موقّعة، وهذا كان يشبهه بوصفه جندي الكتائب المجهول. ذاك أنّ الرجل تفانى في الولاء لما والاه، وكان صوفيّاً ذائباً في محبوبه الكتائبيّ، بل الجميلي أيضاً. فهو مَن سكّ تعبير «الجميليّة» محاولاً، بطموح غير مبرّر، تحويل حزبيّته إلى مذهب و«ism»، ورسم مؤسّسها بيار الجميّل صاحبَ مدرسة تتعدّى الحزب ونطاقه. هكذا كان مستعدّاً، شأنه شأن كلّ مؤمن يقينيّ، أن يسلخ صفات فاضلة عن نفسه وينسبها إلى سياسي جميلي ما. يصحّ هذا بالطبع في المؤسّس بيار، ولكنْ أيضاً في نجليه أمين وبشير، ومن بعدهما أحفاده بيار وسامي ونديم. فهؤلاء، على رغم تناقضاتهم الكثيرة والمعلنة، لم يكونوا، في عرف جوزيف أبو خليل، يتناقضون. إنّهم محكومون بقدَر مسبق يطرد الانقسام عنهم، وباسم عائلي يستحيل ألاّ يجمع المختلف.
وكان جوزيف، حين تعرّفت إليه، أوّل كتائبي ألقاه وجهاً لوجه. هذا ما وسّع رؤية الخصم وأنْسَنَها فأحلّ وجوهاً كثيرة حيث حلّ، من قبل، وجه واحد قبيح. من خصومته تعلّمت فكرة الخصومة المتمدّنة التي تستبعد التشهير والتخوين وتعلو فوق شكليّات الخلاف الدارجة في حياتنا، كالمصافحة والظهور معاً أو تناول الطعام على طاولة واحدة. الخصومة هنا رحبة، تنحصر في السياسة حيث تشوبها الحدّة والتشدّد، لكنّها تتّسع للسؤال عن الأحوال الشخصيّة والعائليّة وللكلام في مهنة يُفترض أنّها تجمعنا.
لقد كان أبو خليل فلاّحاً صلباً من الشوف، مجبولاً بتاريخ الصراع الطائفي ومخاوفه الضاربة في القرن التاسع عشر، ومتلهّفاً إلى «تعايش» يسكّن تلك المخاوف. بيد أنّه كان مسكوناً أيضاً بوصفة وحيدة مستمدّة من صورة بسيطة للبنان. وأغلب الظنّ أنّ اللبنان الذي كان متحمّساً إلى «استعادته» كـ«عصر ذهبيّ»، يمتدّ على مرحلتين: من متصرفيّة 1861 إلى تعطيلها في الحرب العالميّة الأولى، ومن نشأة «لبنان الكبير» في 1920 حتّى الحرب الأهليّة المصغّرة في 1958. أمّا الشهابيّة فظلّت التباسه الأكبر، تماماً كما شكّلت الالتباس الأكبر لحزبه. وفي الأحول جميعاً، فمن أجل لبنانه ذاك، كان مستعدّاً أن يتوجّه إلى سوريّا وإلى إسرائيل، وإلى أي مكان يتوهّم أنّ الخلاص يقيم فيه. وهو توهّمَ كثيراً، بيد أنّ توازنات القوى الضاغطة كانت تدفعه إلى التشبّث بحبال من هواء.
وإبّان عملي على كتابي «تعريب الكتائب اللبنانيّة»، أواسط الثمانينات، أجريت معه مقابلة طويلة تخلّلها شعور لديه، ظلّت تنكره الكلمات، من أنّ الماضي مضى. وهو، للمفارقة، بدأ يمضي مع انتخاب بشير الجميّل للرئاسة وسخريته من «الصيغة الفريدة» التي تشدّق بها والده، ثمّ مع مقتله والرئاسة البائسة لشقيقه أمين. وبعد تقلّص حزبه إلى فصيل صغير، وانعطاف أبناء كثيرين عنه، أبناءٍ ساهم جوزيف في تربيتهم التي تنصّل منها، فيما تنكّروا هم لها وله، جاءت الثورة تختم فصلاً طويلاً محزناً، وبات سؤاله الأثير «أي لبنان نريد؟» مطروحاً بصيغ ودلالات تعصى على مُخيّلات الأقدمين.