خيرالله خيرالله
كلام كثير يقال عن الاردن هذه الايّام. توقع كثيرون اضطرابات ضخمة في الاردن بعد رفع اسعار المحروقات قبل اسابيع قليلة. كان الامر مجرّد حدث عابر على الرغم من اصرار الاخوان المسلمين على استغلاله الى ابعد حدود.
اليوم، مع اقتراب موعد الانتخابات الاردنية في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، يبدو مفيدا اكثر من اي وقت التأكيد مرة اخرى أن الوضع في المملكة لا يزال دقيقا لاسباب تعود الى أنّ الازمة الاقتصادية التي يعاني منها البلد عميقة. فضلا عن ذلك، انها ازمة متعددة الجانب نظرا الى افتقار الاردن الى ثروات طبيعية من جهة والى وجود قوى تعمل من اجل اضعاف مناعة المملكة من جهة اخرى. أنّها قوى داخلية وخارجية، من بينها اسرائيل، لا تزال تعتقد أن الاردن لقمة سائغة وأن ما عجزت عن تحقيقه عبر الاضطرابات الداخلية يمكن بلوغه عن طريق الضغوط الخارجية.
تبدو الانتخابات نقطة تحوّل في اتجاه الخروج من الوضع الاقتصادي الدقيق القائم وتجاوزه وذلك بعد تجاوز مرحلة معيّنة كان فيها الوضع خطيرا بالفعل اثر نجاح قوى داخلية واخرى خارجية في تحريك الشارع واستدعاء العنف. بل عمل كلّ شيء من اجل لجوء السلطات الاردنية الى القمع.
من حسن الحظ أن هناك وعيا في المملكة لوجود اساليب اخرى غير القمع وسفك الدماء. اسم هذه الاساليب هو القوّة الناعمة التي لجأت اليها السلطات الاردنية من اجل استيعاب الازمة الاقتصادية ووضع الاردنيين في الوقت ذاته على طريق الاصلاحات السياسية الشاملة.
بكلام اوضح، أن الهدف من الانتخابات يتمثّل في تمكين الاردنيين من ان يكونوا شركاء في تحمّل المسؤولية. ويشمل ذلك العمل من اجل الخروج من الازمة الاقتصادية والبحث في الوقت ذاته عن قواسم مشتركة تؤمن ايجاد قواعد لحياة سياسية سليمة تقوم اوّل ما تقوم على التداول السلمي للسلطة عبر الاحتكام لصناديق الاقتراع.
تبدو الانتخابات خطوة في تشجيع الاردنيين على المشاركة في التصدي لقوى الظلام التي ترفع الشعارات البراقة وتريد عمليا القضاء على أيّ امل في تطوير الاردن. تستهدف هذه القوى، على رأسها تنظيم الاخوان المسلمين، العملية السياسية والاصلاحات التي بدأت بمبادرة من الملك عبدالله الثاني منذ ما يزيد على سنتين. تعتقد هذه القوى التي تقاطع الانتخابات أن ما شهدته الاردن من اضطرابات كان يجب أن يصب في تغيير للنظام يترافق مع تنظيم للانتخابات على اساس قانون صنع خصيصا كي يصل الاخوان الى السلطة. بدل ذلك، اصرّت السلطات الاردنية على قانون على قياس الاردنيين جميعا وليس على قياس مجموعة معيّنة تسعى الى السلطة بأيّ وسيلة.
الواضح أنّ الاردنيين تجاوبوا مع القانون الجديد. لو لم يكن الامر كذلك، لما بلغ عدد الذين تسجلوا في قوائم الناخبين اكثر من مليوني اردني. كان ذلك ابلغ ردّ على الداعين الى مقاطعة الانتخابات والمشككين في القانون الانتخابي وجدواه. أنها القوّة الناعمة التي فعلت فعلها مرّة اخرى في الاردن. هذه القوّة الناعمة استوعبت المتظاهرين الذين حاولوا افتعال صدامات ذات طابع دموي. لم يسقط في الاردن اي قتيل على الرغم من حصول مئات التظاهرات في مختلف انحاء المملكة وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها بعض العناصر من اجل استفزاز قوات الامن والذهاب الى اطلاق شعارات تمسّ الملك نفسه.
قادت القوة الناعمة الى الانتخابات. مرّة اخرى، يمكن القول أنّ رهان عبدالله الثاني على الاردنيين كان في محلّه.
الآن، وقبل ايّام من الانتخابات، يأتي الملك ليبلغ الاردنيين ما عليهم توقعه بعد الانتخابات. قال لهم صراحة أن هناك مشكلة تكمن في نأي الاردنيين نفسهم عن الاحزاب السياسية. هناك اذا مشكلة تستفيد منها الاحزاب الدينية، من نوع الاخوان، التي تمارس ما سمّاه العاهل الاردني "السلطوية الدينية". هذه الاحزاب لا تؤمن بحقوق المرأة ولا بحقوق الاقليات المسيحية وغير المسيحية. في النهاية، لا تؤمن "السلطوية الدينية" بالتعددية السياسية ولا بالتداول السلمي للسلطة. صندوق الاقتراع بالنسبة اليها هو الطريق الى السلطة ولكن من اجل الاحتفاظ بها الى ما لا نهاية.
من الآن فصاعدا، يبدو من المهمّ اردنياً التركيز على قيام احزاب سياسية بعيدة عن التطرف الديني وعن استخدام الدين من اجل الوصول الى السلطة والتشبث بها تلبية لشبق قديم اليها.
ما نشهده في الاردن اليوم هو سعي، عن طريق استخدام القوّة الناعمة، الى تعويد المواطن العادي على تحمّل مسؤولياته بعيدا عن الشعارات الطنانة. فبالقوة الناعمة حافظت الاردن على السلم الاجتماعي. وبالقوّة الناعمة استطاعت مواجهة بعض جوانب الازمة الاقتصادية الحادة. وبالقوّة الناعمة امكن اقناع مصرـ الاخوان المسلمين بأن لديها مصلحة في التعاطي بشكل علمي، استنادا الى القانون الدولي، مع الاردن في شأن موضوع الغاز الآتي من سيناء. وبالقوّة الناعمة امكن فتح خطوط تواصل جديدة مع العراق واقناع الحكومة هناك بأنّ العلاقات الاردنية- العراقية مصلحة مشتركة وأن من مصلحة العراق ايجاد خطوط انابيب نفط عبر الاراضي الاردنية. وبالقوّة الناعمة استطاعت الاردن الحدّ من الانعكاسات السلبية الناجمة عن تدفق عشرات آلاف اللاجئين السوريين على اراضيها. وبالقوّة الناعمة امكن مواجهة الضغوط السورية والايرانية التي كانت تصبّ في محاولة تحويل الانظار عما يدور داخل سوريا.
كانت الانتخابات الاردنية تحديا اصرّ عبدالله الثاني على خوضه. ماذا بعد الانتخابات؟ هل تصبّ الانتخابات في قيام مجلس نيابي جديد يشهد نقاشات جدّية تصبّ في كيفية بناء حياة سياسية متطورة تكون المواجهة فيها بين برامج سياسية واقتصادية عصرية بديلا من المزايدات والشعارات والاصوات العالية والجدل البيزنطي الذي لا طائل منه؟...
في كلّ الاحوال، سيظل هناك مرجع يسهر على تطبيق الدستور بغية بقاء الاردن في دائرة الامان...مرجع يعرف أن لغة العصر اسمها القوّة الناعمة التي اوصلت الى الانتخابات وساهمت في التعاطي على نحو معقول مع المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها دول المنطقة ومن بينها الاردن!