بفضل عملية الانتقال والطريقة التي حصل من خلالها ترتيب الأمور مع وفاة الملك عبدالله يتبين أن السعودية قادرة على المحافظة على استقرارها وأن بيت الحكم فيها مؤسسة تستطيع تجديد نفسها بنفسها.
مع غياب الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن المشهد السياسي السعودي والإقليمي والعالمي، يتضّح الخط العريض لعملية انتقال سلسة للسلطة إلى أبناء الجيل الثالث في المملكة، أي إلى أحفاد الملك عبدالعزيز.
ليس تعيين الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز وليّا لوليّ العهد، وهو موقع ابتدعه الملك عبدالله، سوى دليل على ذلك، خصوصا بعدما ثبّت الملك سلمان على وجه السرعة وليّ العهد لوليّ العهد الذي اختاره سلفه، وهو الأمير مقرن بن عبدالعزيز.
خطط العاهل السعودي الراحل لعملية الانتقال هذه التي لن تترك آثارها الإيجابية على المملكة العربية السعودية فحسب، بل على الشرق الأوسط كلّه أيضا.
بفضل عملية الانتقال هذه والطريقة التي حصل من خلالها ترتيب الأمور مع وفاة الملك عبدالله، يتبيّن أنّ المملكة العربية السعودية قادرة على المحافظة على استقرارها من جهة، وأنّ بيت الحكم فيها مؤسسة تستطيع تجديد نفسها بنفسها من خلال ديناميكية خاصة.
وصولا إلى ما وصلنا إليه، لا يمكن تجاهل الدور الإيجابي الذي لعبه الملك عبدالله على الصعيدين الداخلي والإقليمي. أمّن ذلك الانتقال الهادئ للسلطة. أكّد ذلك أنّ الرهان على هزة داخلية لدى المباشرة بعملية الانتقال إلى الجيل الثالث ليس رهانا في محلّه.
سارع الملك سلمان إلى ممارسة صلاحياته بكلّ جرأة. لا تردّد لديه، تماما مثلما لم يكن هناك تردّد لدى الملك عبدالله. هذه الجرأة وهذا الحسم لدى الملك سلمان يبعثان على الاطمئنان.
ما يبعث على الاطمئنان ليس عائدا إلى أنّ الملك الجديد يعرف تماما ماذا يريد على الصعيد الداخلي فحسب، بل إنّه عائد أيضا إلى أنّ الملفّات الخارجية لا تزال في يد أمينة. فالملك عبدالله لم يتراجع أمام اتخاذ القرارات الكبيرة، حتّى عندما كان لا يزال وليّا للعهد ونائبا للملك في خلال فترة مرض الملك فهد بن عبدالعزيز الذي توفّي في العام 2005. فمنذ العام 2000، اتخذ الملك عبدالله قرارا حاسما بالانتهاء من مشكلة مزمنة هي تخطيط الحدود مع اليمن. وقّع مع علي عبدالله صالح، الرئيس وقتذاك، اتفاق الحدود فاتحا الباب على مصراعيه أمام نوع جديد من العلاقات بين البلدين الجارين.
وضع جانبا كلّ ما يمكن وصفه بعقد متبادلة بين السعودية واليمن وقرّر النظر إلى المستقبل. استطاع عبدالله بن عبدالعزيز في نهاية المطاف أن يترك لسلفه مملكة ذات حدود واضحة ومحددة بدقّة. لم يترك هذا الملفّ الشائك عالقا. وفي ضوء التطورات التي يشهدها اليمن حاليا، نكتشف كم كان العاهل السعودي الراحل بعيد النظر. فلو لم يحسن الاستفادة من اللحظة المناسبة، لكانت السعودية إلى الآن ولفترة غير محدّدة في المدى المنظور عاجزة عن إيجاد طرف يمني يمكن التفاوض معه في شأن الحدود.
قبل أن يصبح ملكا أيضا، امتلك الملك عبدالله ما يكفي من الجرأة كي يقود أوّل محاولة عربية جدّية للتوصّل إلى سلام شامل في المنطقة. كانت مبادرة وليّ العهد السعودي في قمّة بيروت للعام 2002 كفيلة بإيجاد تسوية تاريخية بين العرب وإسرائيل لو كان هناك في الدولة العبرية من هو قادر على أن يكون رجل دولة.
على الرغم من أن ما أصبح مبادرة السلام العربية، أضحى أمرا منسيا، إلاّ أنّه لا بد من يوم قريب يتبيّن فيه أنّ لا مفرّ من العودة إليها في حال كان مطلوبا التوصّل إلى سلام في الشرق الأوسط.
بعدما صار ملكا، لم تغب المبادرات ولا المواقف. تكفي وقفة الملك عبدالله مع البحرين وتضامنه مع لبنان، خصوصا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. لم يتراجع “أبو متعب” في الوقوف مع لبنان في كلّ لحظة. بذل كلّ جهد من أجل استعادة سوريا وحمل رئيس النظام فيها على العودة إلى الحظيرة العربية. لم ينجح في ذلك، لكنّه حاول. فقد كان يعرف جيّدا النتائج التي ستترتب على مغامرات النظام السوري التي جعلته يسقط نهائيا في الحضن الإيراني.
لم ينقص الملك عبدالله الوضوح. كان واضحا في موقفه من إيران ومشروعها التوسّعي القائم على استغلال الغرائز المذهبية إلى أبعد حدود. أمّا بالنسبة إلى العراق، فصحيح أنّه فقد في مرحلة معينة أيّ أمل في قيام سياسة عراقية متوازنة، خصوصا عندما كان نوري المالكي رئيسا للوزراء، إلاّ أن الصحيح أيضا أنّه لم تمرّ لحظة على رحيل المالكي، حتّى انفتحت الرياض على بغداد. هناك محاولة جديدة لإعادة مدّ الجسور مع العراق، على الرغم من الوجود القوي لإيران في هذا البلد.
كان الملك عبدالله رجل القضايا الكبيرة بدليل الوقوف مع مصر ومع ثورة شعبها التي أطاحت بنظام الإخوان المسلمين في الثلاثين من حزيران ـ يونيو 2013. يقع الوقوف مع مصر في إطار واسع هو الحرب على الإرهاب التي تخوضها المملكة العربية السعودية. هذه الحرب لا تفرّق بين “داعش” السنّية والدواعش الشيعية. الإرهاب واحد ولا يمكن أن تكون هناك أيّ أعذار للإرهابيين.
ما ورد أعلاه غيض من فيض ممّا تحقق خلال حكم عبدالله بن عبدالعزيز الذي أدرك باكرا خطورة إدارة باراك أوباما التي تختزل ملفّات الشرق الأوسط بملفّ واحد هو الملفّ النووي الإيراني. وهذا ما جعل الراحل يتدخّل غير مرّة من أجل إعادة السياسة الأميركية إلى أرض الواقع. والواقع يتمثّل حاليا في هبوط أسعار النفط والنتائج السياسية بالغة الخطورة التي ستترتّب عليه والتي جعلت السياسة الإيرانية أكثر عدائية وشراسة في كل المنطقة، خصوصا في اليمن والبحرين وسوريا ولبنان والعراق.
غادر الملك عبدالله عالمنا بعد وضعه الأسس اللازمة لإصلاحات في الداخل السعودي. ترك المملكة في أيد أمينة. تركها في عهدة الملك سلمان الذي باشر إلى وضع لمساته على هذه الإصلاحات. في النهاية، هناك خطّ عريض يقوم على تأمين المملكة. لكلّ ملك طريقته وأسلوبه ووليّ عهده ووليّ وليّ العهد. ولكلّ ملك رجاله أيضا. المهمّ المحافظة على المملكة وعلى دورها الذي بدأ في عهد الملك عبدالله يأخذ أبعادا جديدة، في مقدّمها خوض الحرب على الإرهاب ومواجهة المشروع الإيراني في الوقت ذاته.
الأكيد أن الملك سلمان، رجل الخبرة والثقافة الواسعة، يمتلك كلّ المؤهلات التي تمكّنه، بطريقته الخاصة، من أن يكون خير من يشرف على عملية تطوير المملكة ورعايتها في إحدى أدقّ المراحل التي يمرّ فيها الشرق الأوسط والمنطقة المحيطة به.