وزير الدفاع الأميركي المستقيل اكتشف أن إدارة أوباما لا تمتلك شيئا من التواضع والحذر والواقعية عندما يتعلق الأمر بالعراق والشرق الأوسط وحتى أوكرانيا.
في كلّ ما يصدر عنه من تصريحات، يتكّلم تشاك هيغل بواقعية مخيفة تجعل منه طائرا يغرّد خارج سربه. يسمح لنفسه بما لا يستطيع أن يسمح به لأنفسهم السياسيون الأميركيون الآخرون الذين يتطلّعون إلى منصب كبير. على سبيل المثال وليس الحصر، قال في العام 2006، بعدما انحازت إدارة جورج بوش الابن لإسرائيل بشكل مفضوح “أنا عضو في مجلس الشيوخ الأميركي ولست عضوا في مجلس الشيوخ الإسرائيلي”. فسّر تصريحه، بعد الحملة التي تعرّض لها وركّزت على معاداته للسامية، بأنّه يدافع عن مصالح الولايات المتحدة أوّلا، وهي مصالح تتجاوز العلاقة بإسرائيل.
قال في هذا المجال، من دون أن يرفّ له جفن ما يأتي: “إن مساءلة حكومتك ليست تصرّفا غير وطني. ما هو غير وطني يتمثّل في عدم مساءلة الحكومة”. وأضاف: “إنّ علاقتنا بإسرائيل علاقة خاصة وتاريخية.. لكنّ هناك حاجة إلى أن لا تكون هذه العلاقة على حساب علاقاتنا مع العرب والمسلمين، ويجب أن لا تكون كذلك. هذا خيار غير مسؤول وخطير في الوقت ذاته”. أراد القول بكل بساطة إن الخيار بين اسرائيل من جهة والعرب والمسلمين من جهة أخرى مرفوض بالنسبة إليه، كما لا يمكن أن يكون خيارا أميركيا.
تكمن أهمّية هيغل في أنّ ليس في استطاعة أيّ أميركي المزايدة عليه وطنيا. شارك في حرب فيتنام في العامين 1967 و1968 وخرج من الحرب وعلى صدره مجموعة من الأوسمة الرفيعة التي كانت بمثابة تقدير لشجاعته وجرأته وتضحياته. كان الأميركي الوحيد الذي شارك في تلك الحرب وإلى جانبه شقيقه. كان في الوحدة نفسها مع شقيقه. أنقذ حياة شقيقه مرّات عدة وأنقذ شقيقه حياته مرّات عدّة أيضا.
تجربة الحرب قد تكون دفعته إلى أن يكون، هو الجمهوري، طوال اثنين وعشرين شهرا وزيرا للدفاع في إدارة ديموقراطية برئاسة باراك أوباما. نادت هذه الإدارة، منذ ما قبل وصول الرئيس الأسود إلى البيت الأبيض، بضرورة “التغيير”.
كان هيغل يحلم أيضا بالتغيير بعدما بدأ يوجّه انتقادات حادة إلى مغامرة بوش الابن في العراق. فمنذ صيف العام 2005، قال السناتور هيغل، الذي بقي في مجلس الشيوخ بين 1997 و2009، إنّه بات في الإمكان “المقارنة” بين حربي العراق وفيتنام. دعا في السنة 2006 إلى انسحاب عسكري أميركي مبرمج، أي على مراحل، من العراق.
يبدو أنّ حرب العراق كانت وراء قراره القاضي بالسير خلف شعار “التغيير” الذي رفعه باراك أوباما عنوانا لحملته الانتخابية الناجحة.
من الواضح أنّ العراق أثّر على نحو عميق في السناتور الأميركي الذي رفض مهادنة إدارة بوش الابن، على الرغم من انتمائه إلى الحزب الجمهوري، حزب بوش الابن.
في كتابه الذي صدر في العام 2008 وعنوانه “أميركا: الفصل الآتي، أسئلة قاسية وأجوبة مباشرة”، وصف حرب أميركا على العراق بأنّها بين أكبر خمسة أخطاء تاريخية ارتكبتها الولايات المتحدة. ذهب إلى حدّ القول إنّ السياسة الخارجية لإدارة بوش الابن هي بمثابة “لعبة كرة طاولة (بينغ بونغ) بأرواح أميركية”.
أمضى تشاك هيغل اثنتي عشر سنة في الكونغرس ممثلا لولاية نبراسكا. كان متابعا دقيقا لقضايا الشرق الأوسط. كان بين حمائم الحزب الجمهوري. دعا باكرا إلى التفاوض مع إيران. دعا حتّى إلى فتح حوار مع “حماس”. بدا ساذجا في أحيان كثيرة. لكنّ أهمّيته تكمن في أنّه كان قادرا على تطوير مواقفه بعيدا عن الديماغوجية وصولا إلى مرحلة صار يُعتبر فيها حكيما من حكماء واشنطن. ظهر ذلك خصوصا عندما أصبح، في عهد أوباما، أحد رئيسي اللجنة الجمهورية ـ الديموقراطية المكلفة بمراقبة أجهزة الاستخبارات الأميركية منعا لأي تجاوزات.
استطاع هيغل مع مرور الوقت تشخيص الوضع في الشرق الأوسط. اكتشف أن تعقيدات المنطقة ليست بالبساطة التي يتخيّلها أوباما والفريق الصغير المحيط به. ربّما كان ذلك عائدا إلى أنّه يتعاطى في إطار “أتلانتيك كونسيل” (أحد أهمّ مراكز الأبحاث والدراسات في واشنطن) مع شخصيات مهمّة تمتلك خبرة طويلة وعميقة واستثنائية في شؤون الشرق الأوسط مثل الجنرال برنت سكاوكروفت مستشار الأمن القومي في عهد جورج بوش الأب.
تطوّر فكر وزير الدفاع الأميركي المستقيل، أو المُقال، إلى درجة بات يطرح أسئلة أساسية من نوع “كم بيننا من يعرف العراق أو يفهم شيئا عنه، أي عن البلد وتاريخه وشعبه ودوره في العالم العربي؟ إني أتعاطى مع مسألة العراق في مرحلة ما بعد صدّام حسين ومع مستقبل الديمقراطية والاستقرار في الشرق الأوسط ببالغ الحذر والواقعية وبمزيد من التواضع″.
اكتشف أنّ إدارة أوباما لا تمتلك شيئا من التواضع والحذر والواقعية عندما يتعلّق الأمر بالعراق والشرق الأوسط وحتّى أوكرانيا حيث كان يدعو إلى موقف متشدّد من روسيا يؤكد التحالف الأميركي ـ الأوروبي من جهة ومن أجل ممارسة ضغوط حقيقية عليها تسهّل التخلص من النظام السوري من جهة أخرى.
كانت فضيحة عدم الردّ على استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي بشكل مفضوح صيف العام 2013، فضيحة مدوّية. ابتلع وزير الدفاع الإهانة المتمثّلة في اتخاذ أوباما قرارا بعدم الردّ على تجاوز النظام السوري “الخط الأحمر” الذي تحدّث عنه الرئيس الأميركي غير مرّة.
اكتشف أن القرار الأميركي في مكان آخر، أي في الحلقة الضيقة المحيطة بأوباما والتي تضمّ الرئيس نفسه وكبير موظّفي البيت الأبيض دنيس ماكدونو ومستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي سوزان رايس وبعض المساعدين الصغار في السنّ. كذلك، يمكن أن يكون هناك تأثير كبير على أوباما لفاليري جاريت، ذات الهوى الإيراني، وهي من مستشاريه ومن القربين منه ومن زوجته.
في كلّ الأحوال، لم يعد يتحمّل تشاك هيغل باراك أوباما الحائر. وصل إلى مرحلة بات يطرح فيها على نفسه سؤالا في غاية الأهمّية عن حقيقة موقف الإدارة الأميركية من نظام بشّار الأسد. في النهاية ماذا يريد باراك أوباما؟ هل لديه سياسة واضحة تجاه النظام السوري أم لا؟ هل هو مع رحيل بشّار الأسد أم أنه مع بقائه؟ في النهاية، لدى وزير الدفاع الأميركي شكّ في أن إدارة أوباما تستغلّ وجود “داعش” لتوجيه ضربات إلى هذا التنظيم الإرهابي بما يصبّ في مصلحة النظام السوري. هل هناك فارق بين النظام السوري و”داعش” أم أنّهما وجهان لعملة واحدة؟ ما الفارق بين ما ترتكبه “داعش” وبين ما يرتكبه النظام السوري في حقّ السوريين؟ ما الفارق بين الذبح الذي تمارسه “داعش” والبراميل المتفجّرة التي يلقيها النظام على السوريين؟
تعلّم هيغل ما يكفي عن الشرق الأوسط كي يدرك أنّ عليه ترك وزارة الدفاع. لذلك طرح في تشرين الأوّل ـ أكتوبر الماضي السؤال الواجب طرحه. هذا السؤال متعلق أوّلا وأخيرا بما إذا كانت الغارات الجوية الأميركية التي تستهدف “داعش” تصبّ في مصلحة بشّار الأسد الذي أكدّ باراك أوباما غير مرة أنّه لا يمكن أن يتصوّر بقاءه في السلطة.
يمكن اختزال موقف تشاك هيغل بأنه رجل واضح اصطدم بإدارة حائرة. فضلا عن ذلك، لا يمكن الاستخفاف بأن الرجل يطمح إلى الوصول إلى البيت الأبيض. وهذا يتجاوز الحسابات المتعلّقة بالشرق الأوسط.
يعرف هيغل قبل غيره أنّ الوصول إلى البيت الأبيض بات يتطلّب اليوم الابتعاد، أكثر ما يمكن، عن إدارة باراك أوباما وذلك في وقت بات مطروحا أن يكون جيب بوش، وهو شقيق جورج بوش الابن مرشّح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
كلّ ما في الأمر، أن حسابات تشاك هيغل باتت تختلف عن حسابات باراك أوباما. الابتعاد عن الرئيس الأميركي ورقة رابحة بكلّ المقاييس. لم يعد هناك من يستطيع السماح لنفسه بالارتباط بإدارة أميركية عاجزة حتّى عن اتخاذ موقف من رجل منته سياسيا اسمه بشّار الأسد.
لم يعد لدى تشاك هيغل ما يخسره. فالابتعاد عن إدارة أوباما صار ربحا صافيا له. أنقذ سمعته أوّلا وبات في موقع يسمح له بالمنافسة من أجل الحصول على البطاقة الجمهورية في انتخابات الرئاسة الأميركية ثانيا وأخيرا.
يقول المثل الفرنسي إنّ باريس تستأهل قداسا، بمعنى أن الوصول إلى باريس، بما كانت ترمز إليه من سلطة، يتطلّب حضور قدّاس. بالنسبة إلى تشاك هيغل، تبدو التضحية بموقع وزير الدفاع في إدارة أوباما أكثر من ضرورية، في حال كان يعتقد أنّ لديه مستقبلا سياسيا ما يطمح إليه كرئيس أو نائب للرئيس…