تحول في مزاج اللبنانيين

تحول في مزاج اللبنانيين

تحول في مزاج اللبنانيين

 لبنان اليوم -

تحول في مزاج اللبنانيين

بقلم : خير الله خير الله

في “ماراتون بيروت”، الأحد الماضي، ظهر الفارق، تبيّن كم أن المدينة قادرة على المقاومة، كم أنّها مرتبطة بثقافة الحياة وترفض ثقافة الموت، وكم أنّها متعلّقة أيضا بوجود شخص مثل سعد الحريري يؤمن بثقافة الحياة وما ترمز إليه على كلّ صعيد.

عاجلا أم آجلا، سيشكل سعد الحريري حكومته بالتفاهم مع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النوّاب والقوى السياسية الأخرى. المواعيد غير مهمّة ولكن كلما جاء تشكيل الحكومة سريعا، كلّما كان ذلك أفضل من أجل المحافظة على انتظام عمل المؤسسات الرسمية اللبنانية، أو ما بقي منها.

قبل تشكيل الحكومة بدأت بيروت تنتعش. أنعشت خيارات سعد الحريري البلـد، على رغم كـلّ ما تضمنته من مجـازفات، لا يمكن الاستخفاف بها، في ظلّ رغبة “حزب الله” بالهيمنة، عن طريق سلاحه المذهبي غير الشرعي من جهة، والوضع الإقليمي المعقّد إلى أبعد حدود من جهة أخرى.

جاءت عائلات بكاملها، بـل آلاف العـائلات، إلى وسط بيروت لتشاهد سعد الحريري يركض في “ماراتون بيروت”. كان هناك فرح في وجوه الناس بعد سنوات طويلة من الحزن. للمرّة الأولى، يمكن الكلام عن بعض الأمل المـرتسم على الـوجوه في بلد عرف كيف يحافـظ على نفسه في ظلّ الحرائق المشتعلة في سوريا، وهي حرائق يساهم “حزب الله” في تأجيجها بطلب إيراني. إذا أخذنا في الاعتبار الوضع السوري ومدى تورط مجموعة مذهبية لبنانية في الحرب التي يشنّها النظام الأقلّوي في دمشق على شعبه، نجد أن لبنان في نعمة فعلا.

كان في استطاعة لبنان الاستفادة إلى حد كبير من كلّ أحداث المنطقة لو أنّ “حزب الله” لم يتورط في سوريا ولم ينخرط في المشروع التوسّعي الإيراني الذي بين أهدافه الاستثمار في كلّ ما من شأنه إثارة الغرائز المذهبية، فضلا بالطبع عن عزل لبنان عن محيطه العربي، خصوصا عن أهل الخليج.

كان في استطاعة لبنان أن يكون ملاذا لكبار الأثرياء العرب المستعدين للاستثمار فيه والهاربين من الدول التي أصابها “الربيع العربي”، لو كانت هناك دولة مستقرة لا يسعى “حزب الله” إلى نقلها من الوصاية السورية – الإيرانية إلى الوصاية الإيرانية إرضاء لمشروع يستهدف كلّ ما هو عربي، بالمعنى الحضـاري لكلمة العـربي، في المنطقة.

مرّة أخرى، صنع سعد الحريري الفارق؛ الفارق بين ثقافة الموت وثقافة الحياة، الفارق بين اليأس والأمل، الفارق بين بقاء الشباب اللبناني في البلد والهجرة إلى أبعد مكان في العالم، في حال لم تتوفّر فرص عمل للشاب في دولة خليجية.

ما كشفه “ماراتون بيروت” أن وضع لبنان غير ميؤوس منه. وهذا عائد إلى الصمود اللبناني وإلى الصيغة اللبنانية التي استطاعت أن تثبت أنّها ليست مجرّد فولكلور، بل تعكس توازنا حقيقيا لم يتوفر في عدد كبير من البلدان العربية كانت تعتقد أن لبنان بلد “هشّ” على حد تعبير عدد لا بأس به من المسؤولين العرب، من بينهم رئيس النظام السوري بشّار الأسد.

أعاد رفيق الحريري الحياة إلى بيروت؛ دافع عن كلّ لبناني، بغض النظر عن طائفته ومذهبه ومنطقته، دافع عن بيروت، كان الرجل “مهووسا بلبنان” على حد تعبير صديقي نهاد المشنوق الذي لازمه لسنوات طويلة، اكتشف من خلالها مدى تعلّق رفيق الحريري بلبنان.

الأهمّ من ذلك، أنّه اكتشف عمق معرفته بلبنان وأهمّية بيروت وكلّ المؤسسات اللبنانية، بدءا بالجامعة الأميركية ومستشفاها والجامعة اليسوعية وكلّ المؤسسات التي جعلت لبنان منارة الشرق الأوسط مثل “جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية” ومدارسها و”دار العجزة الإسلامية” والمؤسسات التربوية الأخرى، أكانت مسيحية أو إسلامية… وصولا إلى مؤسسة الجيش اللبناني.

لا يتعلّق الموضوع ببيروت وحدها؛ بيروت عنوان يلتقي فيه اللبنانيون. من أعاد الحياة إلى بيروت، إنما باشر إعادة الحياة إلى لبنان.

كان في “ماراتون بيروت” مشاركون من كلّ الطوائف والمناطق وكان، بين الذين جاؤوا لمشاهدة “الماراتون”، أغنياء وفقراء ومتوسطو الحـال، حضروا جميعا إلى المدينة ليكونوا شهودا على أن ثقافة الحياة لا يمكـن إلّا أن تنتصر على ثقـافة المـوت، مهما وُضعت عقبات من أجل الحؤول دون ذلك.

لعلّ أهم ما شهدناه، من خلال “ماراتون بيروت”، التحوّل في مزاج اللبنانيين. كانت مطاعم وسط بيروت ومقاهيه مكتظة بالناس. جاؤوا للتعبير بفرحهم عن أن شعلة الأمل لا تزال حيّة ترزق وأنّه، مهما وضع “حزب الله” من عراقيل في وجه عودة لبنان دولة عربية مستقلّة وبيروت وجهة سفر للإخوان في الخليج، سيكون مصيرها الفشل ولا شيء آخر غير ذلك.

كان أهمّ ما قاله سعد الحريري في خطاباته الأخيرة أنّه ملتزم بخيارات رفيق الحريري. تقوم هذه الخيارات على التسويات. ما دام هناك أمل في إعادة الحياة إلى بيروت ولبنان، يمكن خوض كلّ المغامرات والمخاطر والقيام بكلّ المجازفات، بغض النظر عن الحسابات الضيّقة من نوع عدد الوزراء الذي يمكن أن تحصل عليه هذه القوة السياسية أو تلك.

في القضايا الكبيرة، لا مكان للحسابات الصغيرة، بما في ذلك تلك المرتبطة بالحساسيات الشخصية. أثبت سعد الحريري أنّه يستطيع صنع الفارق، تماما كما كانت عليه الحال مع والده. صناعته للفارق تساعد في تحصين لبنان في وقت يبدو الشرق الأوسط مقبلا على مزيد من العواصف والحرائق.

من يستطيع، على سبيل المثال فقط، التكهّن بما ستكون عليه سياسة الإدارة الأميركية الجديدة التي على رأسها دونالد ترامب؟ من كان يتوقّع أصلا أن يفوز ترامب على هيلاري كلينتون؟ هناك دول في غاية الأهمّية على الصعيد العالمي، من بينها ألمانيا، بنت كلّ استراتيجياتها على فوز كلينتون.

ما الذي سيفعله الرئيس الأميركي الجديد بعد تسلم مهماته في العشرين من كانون الثاني – يناير المقبل؟ ما موقفه من إيران والاتفاق في شأن ملفّها النووي؟ ما موقفه من النظام السوري، بغض النظر عن كل ما صدر عن ترامب في الماضي القريب؟ كيف سيتعاطى مع مصر وتركيا؟

لا شكّ أن لبنان بلد صغير ولا أهمّية كبيرة له على الصعيـد الإقليمي، خصوصا في الحسـابات الأميـركية وفي ضوء ما يجري في بلديـن كبيرين هما سوريا والعـراق. لكنّ هنـاك فارقا بين أن يلملم الوطن الصغير، الذي اسمه لبنان، أوضاعه وبين أن يترك نفسه عرضة للعواصف والحرائق.

مرّة أخرى، صنع سعد الحريري الفارق، الفارق بين الأمل واليأس، الفارق بين ثقافة الحياة وثقافة الموت، الفارق بين الاستسلام والمقاومة. لا يزال هناك من يقاوم في لبنان بعيدا عن الشعارات المضحكة – المبكية المرتبطة بالتصدي لإسرائيل. من يريد التصدي لإسرائيل لا يساهم في الحرب على الشعب السوري لا أكثر ولا أقلّ.

التسويات في أحيان كثيرة مقاومة، بل جزء لا يتجزّأ من المقاومة. كان الخيار في لبنان بين الإتيان برئيس للجمهورية وبين الفراغ الرئاسي. الإتيان برئيس للجمهورية ورقة يمكن المراهنة عليها، في حين أن الفراغ الرئاسي يعني الاستسلام للقدر وللمشروع التوسّعي الإيراني القائم على بقاء لبنان من دون رئيس تمهيدا لتغيير النظام وطبيعة لبنان. يظل بعض الأمل أفضل بكثير من اليأس الكامل والاستسلام…

ما جسده سعد الحريري من خلال ظهوره في “ماراتون بيروت” هو بعض الأمل في زمن يتبيّن فيه أنّ السقوط في فخّ “حزب الله” وما يعدّه للبلد ليس خيارا، بمقدار ما أنّه حكم بالإعدام في حقّ لبنان.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تحول في مزاج اللبنانيين تحول في مزاج اللبنانيين



GMT 15:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يخشى "حزب الله"... بل يخشى إيران!

GMT 16:42 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية منظمة التحرير!

GMT 11:13 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

طموح نتانياهو.. في ظلّ بلبلة ايرانيّة!

GMT 17:50 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

نجاحات مغربية... و يقظة ضرورية

GMT 20:01 2024 الخميس ,10 تشرين الأول / أكتوبر

السنوار يكتب مستقبل غزّة ولبنان... ولكن!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon