فرنسا… والأمل الأخير

فرنسا… والأمل الأخير

فرنسا… والأمل الأخير

 لبنان اليوم -

فرنسا… والأمل الأخير

بقلم :خير الله خير الله

“في السياسة، لا يمكن للمرء أن ينتهي. خذوني مثلا”. الكلام لآلان جوبي السياسي الفرنسي الذي كان رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية، إضافة إلى شغله حقائب أخرى، بعد تعرّضه لاغتيال سياسي في منتصف العقد الماضي جعله يغادر فرنسا إلى كندا لممارسة التعليم الجامعي. مارس التعليم لفترة قصيرة، ثم عاد إلى فرنسا وشغل حقيبة وزارية في عهد نيكولا ساركوزي قبل أن ينصرف إلى الاهتمام بمدينة بوردو بصفته عمدة لها. حقّق في بوردو نجاحات كبيرة جعلت من المدينة قدوة في فرنسا، بل استثناء.

ليس آلان جوبي سياسيا عاديا. ساد اعتقاد بأنّه انتهى إلى الأبد كسياسي فرنسي بعد فضيحة الوظائف الوهمية في بلدية باريس في العام 2004، ثمّ خسارته المواجهة في الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشّح اليمين الفرنسي في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني – نوفمبر الماضي.

خسر جوبي أمام المرشح اليميني فرنسوا فيون، رئيس الوزراء في عهد ساركوزي الذي عرف كيف يستغل موجة العودة إلى ممارسات أقصى اليمين التي تسود الشارع الفرنسي هذه الأيّام. شجع تلك العودة الفشل الذي رافق عهد فرنسوا هولاند، والعمليات الإرهابية التي ارتكبتها مجموعات متطرّفة مثل “داعش” وسعت إلى إلصاقها بالإسلام.

استطاع فيون مجاراة مرشحة اليمين المتطرّف مارين لوبن، بل التفوّق عليها في مجال التطرّف الذي بلغ حدّ العنصرية، إن تجاه الإسلام أو الهجرة إلى فرنسا. سمح له ذلك باكتساح آلان جوبيه في أوساط اليمين الفرنسي. فجوبي، الديغولي القديم، القريب من الرئيس السابق جاك شيراك أقرب من الوسط منه إلى اليمين، وهو ليس مستعدا للدخول في مزايدات من النوع الرخيص التي يدخلها شخص مثل فيون أو مارين لوبن.

هناك وضع لا سابق له في فرنسا، وذلك قبل أسابيع قليلة من موعد الانتخابات الرئاسية. الدورة الأولى في الثالث والعشرين من نيسان – أبريل المقبل والثانية في السابع من أيار – مايو. هناك انهيار كامل في جبهة اليسار، خصوصا بعدما قرّر فرنسوا هولاند الامتناع عن الترشّح لمعرفته المسبقة أن لا أمل له في الحصول على ولاية ثانية. قضى هولاند، عمليا، على الحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه، وذلك بعد الفشل الذريع الذي تميّزت به ولايته الرئاسية.

كان فشل هولاند على الصعيد الاقتصادي أوّلا. اعتمد نظاما ضرائبيا جعل عددا كبيرا من رجال الأعمال يهربون إلى خارج فرنسا، خصوصا عندما أوصل نسبة الضريبة على الأرباح إلى خمسة وسبعين في المئة!

يعرف كلّ فرنسي أن هولاند ليس اشتراكيا حقيقيا، ذلك أن ممارساته على الصعيد الشخصي، لا علاقة لها بالفقر والفقراء والعدالة الاجتماعية. كشفته عشيقته فاليري تريرفيلر التي رافقته إلى قصر الإليزيه بعد انتخابه رئيسا قبل خمس سنوات. للمرّة الأولى يصطحب رئيس فرنسي عشيقته، وليس زوجته، إلى قصر الرئاسة في بلد لا يعلّق أهمّية كبيرة على الحياة الشخصية للسياسيين. لكنّ هولاند تجاوز كلّ حدود، عندما راح يتسلل إلى شقة عشيقة أخرى له متخفيا وعلى رأسه خوذة كان يرتديها وهو على دراجة نارية صغيرة.

لم ترحم تريرفيلر الرئيس الفرنسي الاشتراكي. انتقمت منه، بكتاب فضحت فيه أنّه يحتقر الفقراء، وأنّه لا يذهب سوى إلى المطاعم المشهورة والغالية التي تمتلك نجمة أو أكثر من “ميشلان”. ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير عندما كتبت أنّه رجل موارب لا يجرؤ على قول الحقيقة لامرأة واجهته بإثباتات على علاقته بامرأة أخرى. لم يستطع هولاند الردّ على أيّ من الوقائع الواردة في الكتاب الذي يظهر الرئيس “الاشتراكي” على حقيقته، بما في ذلك كرهه للفقراء الذين يسميهم بـ”عديمي الأسنان”.

بعد فرنسوا هولاند، الذي كان عهد نيكولا ساركوزي وبطانته بمثابة تمهيد له، لم يعد مستغربا أن يصل إلى الرئاسة شخص من طينة مارين لوبن أو إيمانويل ماكرون أو فرنسوا فيون. هل انتهت الجمهورية الخامسة التي أسسها شارل ديغول في العام 1958 في اليوم الذي خرج فيه جاك شيراك من قصر الإليزيه قبل عشر سنوات تقريبا؟

ليست الجمهورية الخامسة التي انتهت. هناك خطر على فرنسا نفسها، بل على الاتحاد الأوروبي، خصوصا أن لوبن تطمح إلى الخروج من منطقة اليورو والانسحاب من أوروبا بحجة أنّها تريد استعادة فرنسا القديمة التي يصعب أن يجتاز حدودها أولئك الذين تعتبر أنّهم “لا يؤمنون بمبادئ الجمهورية”.

حسنا، كيف التوفيق بين الانعزالية وإيجاد من يعمل في المصانع الفرنسية. هل نسيت مارين لوبن أن الفرنسي لا يريد أن يعمل لساعات طويلة، وأنّ الكسل تفشّى في جسد المجتمع وأنّ الأجانب فقط هم الذين يعملون بالفعل.

تكمن مشكلة فرنسا، التي تفاقمت مع خلافة هولاند لساركوزي قبل خمس سنوات، في أنّها لم تستطع تطوير نفسها أو مؤسساتها. جاء رجال عظام إلى الإليزيه. جاء ديغول، وخلفه جورج بومبيدو. جاء بعد ذلك فاليري جيسكار ديستان، ثم فرنسوا ميتران وجاك شيراك.

كان آلان جوبي الوحيد الذي يمكن إدراجه في سياق هذه السلسلة من رجال الدولة التي أخرجت فرنسا من المستنقع الجزائري وأقامت مؤسسات ثابتة ومستقرّة لدولة حديثة تلعب دورا مهمّا على الصعيدين الأوروبي والعالمي. فوتت فرنسا فرصة اسمها آلان جوبي، الذي كان يمثّل الأمل، وأدخلت نفسها في المجهول.

كانت فرنسا دولة عظيمة. الخوف أن تكون انتخابات 2017 مؤشرا على عودة إلى أيّام الجمهوريتين الثالثة والرابعة، أي إلى أيام غاب عنها الاستقرار السياسي والاقتصادي إلى حد كبير...

حتّى العام 2007 الذي خرج فيه جاك شيراك من الإليزيه، كانت فرنسا دولة محترمة ذات وزن. كان لديها رأيها المستقلّ في كلّ شاردة وواردة. لعبت دورا مهمّا في تكريس موقع الاتحاد الأوروبي على خريطة العالم.

بدأ التدهور في عهد ساركوزي الذي لم يكن لديه من همّ سوى الانتقام من شيراك أو إقامة علاقات مريبة مع بعض الدول، بما في ذلك “جماهيرية” معمّر القذّافي، معتمدا على شخصيات أقل ما يمكن أن توصف به أنّها مشبوهة.

لكنّ ساركوزي الذي ذهب في وقاحته إلى استقبال بشّار الأسد في باريس بعد اغتيال رفيق الحريري، لأسباب لم تعد خافية على أحد، استطاع المحافظة على نوع من التماسك داخل الاتحاد الأوروبي. الأهمّ من ذلك كلّه أنّه حافظ على الاقتصاد الفرنسي، على العكس من فرنسوا هولاند الذي أدخل البلد في أزمة جعلت زائر باريس هذه الأيّام يتساءل: هل هذه باريس التي أعرفها؟ ما الذي حلّ بـ”مدينة النور” ولماذا كلّ هذا الركود فيها؟

هناك كثيرون، في اليمين واليسار، يضعون العراقيل من أجل منع جوبي من الترشّح مكان فرنسوا فيون، مرشّح اليمين الملاحق قضائيا. هناك أيّام قليلة تفصل عن يوم السابع عشر من آذار – مارس الذي لا يعود بعده مجال لتقديم أيّ شخص ترشيحه. هل تنقذ فرنسا نفسها، أم أن الحاجة إلى ثورة فرنسية جديدة كما تقول مجلة “ايكونوميست”، التي خصصت غلاف عددها الأخير لهذا البلد.

ما لا يمكن تجاهله أن فرنسا لعبت دورا محوريا في تأسيس الاتحاد الأوروبي والوقوف في وجه أي جموح أميركي عندما دعت الحاجة إلى ذلك، كما حصل في العام 2003 عندما اتخذ جاك شيراك موقفا معارضا من الاجتياح الأميركي للعراق، ليس حبّا بصدّام حسين وحرصا عليه، بل لمعرفته بمعنى تحقيق انتصار إيراني في العراق بواسطة الجيش الأميركي.

كانت فرنسا دولة عظيمة. الخوف أن تكون انتخابات 2017 مؤشرا على عودة إلى أيّام الجمهوريتين الثالثة والرابعة، أي إلى أيام غاب عنها الاستقرار السياسي والاقتصادي إلى حد كبير…

المصدر : صحيفة العرب

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فرنسا… والأمل الأخير فرنسا… والأمل الأخير



GMT 15:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يخشى "حزب الله"... بل يخشى إيران!

GMT 16:42 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية منظمة التحرير!

GMT 11:13 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

طموح نتانياهو.. في ظلّ بلبلة ايرانيّة!

GMT 17:50 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

نجاحات مغربية... و يقظة ضرورية

GMT 20:01 2024 الخميس ,10 تشرين الأول / أكتوبر

السنوار يكتب مستقبل غزّة ولبنان... ولكن!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon