لم يعد سرّا أن العراق الذي عرفناه لم يعد قائما. كان كافيا إعلان وزير الخارجية الدكتور إبراهيم الجعفري، من سفارة بلده في عمّان، أن الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري” الإيراني يعمل “مستشارا عسكريا” لدى الحكومة العراقية للتأكد من أمر واحد؛ أن العراق لم يعد العراق. صار العراق، بكل بساطة، جرما يدور في الفلك الإيراني.
كان “المستشار” سليماني الذي يقود ميليشيات مذهبية عراقية على مشارف الفلّوجة أكّـد بنفسه أنه موجود هناك بناء على طلـب الحكومة العراقية. لم ينبس أيّ مسـؤول عراقي ببنت شفـة إلى أن خرج الجعفـري بتصـريحـه خـلال مـؤتمـر صحـافـي عقـده في مقر السفـارة العـراقية في عمّان على هـامش زيارة قـام بها قبل أيام للأردن.
قبل كلام الجعفري، وهو رئيس سابق للوزراء من المنتمين إلى “حزب الدعوة الإسلامية”، كان لا يزال هناك بصيص أمل في أن رئيس الوزراء الحالي الدكتور حيدر العبادي يمكن أن يُقْدم على خطوة ما من أجل إجراء تحسين شكلي يظهر من خلاله أنّه مختلف، ولو قليلا، عن سلفه نوري المالكي. ظهر للأسف الشديد أن العبادي نسخة أخرى عن المالكي، مع فارق بسيط أنه أقل وقاحة منه في عدائه لكلّ ما هو سنّي وغير شيعي في العراق.
اختزل كلام الجعفري الوضع العراقي من ألفه إلى يائه. لم تعد من حاجة إلى أيّ تفسيرات من أيّ نوع. كلّ ما في الأمر أن هناك مفوضا ساميا في العراق اسمه قاسم سليماني. لم يستح الجعفري في تحديد المهمات الملقاة على قائد “فيلق القدس”، واصفا إيّاه بأنه “مستشار عسكري” تستعين به الحكومة العراقية من أجل استعادة الفلوجة من تنظيم إرهابي اسمه “داعش”. لم يطرح وزير الخارجية العراقي أيّ سؤال من أيّ نوع عن الأسباب التي مكنت “داعش” من السيطرة على الفلوجة. كذلك لم يطرح أيّ سؤال مرتبط، من قريب أو بعيد، بدور حكومة نوري المالكي والنظام الإيراني وميليشياته في خلق حاضنة لـ“داعش” في كل المناطق السنّية في العراق، خصوصا في محافظة الأنبار. إلى الآن، لا تزال هناك علامات استفهام كثيرة في شأن الظروف التي أحاطت بسقوط الموصل والفلوجة في يد “داعش”.
هل حكومة المالكي المدعومة كلّيا من إيران بعيدة عن هذه الظروف؟ هناك شكوك كبيرة في أن تكون بعيدة عنها، خصوصا في ضوء كلّ ما رافق سقوط الموصل من ملابسات. تصبّ كل هذه الملابسات في رغبة واضحة في استخدام “داعش” كبعبع من أجل تبرير عمليات التطهير ذات الطابع المذهبي في كلّ أنحاء العراق، خصوصا في بغداد والمناطق المحيطة بها.
ليس بالإتيان بقاسم سليماني إلى العراق ووضعه على رأس “الحشد الشعبي” يمكن حلّ مشكلات العراق. مثل هذه التصرفات التي تكشف أن سليماني، الذي لم يكن في الأصل في حاجة إلى من يدعوه إلى العراق، تكشف أن الإرهاب السنّي يتغذى من الإرهاب الشيعي. والعكس صحيح.
انتهى العراق الذي عرفناه. صار هذا البلد مجرّد تابع لإيران. لم يتردّد إبراهيم الجعفري في قول ذلك. من هنا، لا بدّ من توجيه الشكر إليه بصفة كونه سياسيا عراقيا واضحا يسمّي الأشياء بأسمائها من دون لفّ ودوران، بعيدا عن وضع أقنعة من نوع تلك التي يضعها العبادي.
كلّ ما في الأمر أن اللعبة في العراق تتجاوز الجعفري وأمثاله. هناك سباق مع الوقت يصب، إلى إشعار آخر، في مصلحة إيران. لكن السؤال الذي يفرض نفسه، بكل بساطة، هل هناك رغبة إيرانية في إعادة بناء مؤسسات لدولة في العراق، أم أن المطلوب قبل أيّ شيء تفتيت العراق وزيادة الشرخ الشيعي- السنّي فيه كي لا تقوم له قيامة في يوم من الأيّام؟
تعطي معركة الفلّوجة فكرة عن الهدف الإيراني في العراق. مطلوب أن يكون البلد في حال ضعف مستمرّة وفي حروب داخلية لا نهاية لها. مطلوب، بكل صراحة، استنزاف العراق واستخدام موارده في خدمة إيران.
من هذا المنطلق، لا يمكن توقّع نهاية قريبة لمعركة الفلّـوجة التي كشفت أنه ممنوع إعادة تشكيل الجيش العراقي. لم يكن القرار الذي اتخذه بول بريمر والقاضي بحل الجيش قرارا اعتباطيا بأيّ شكل. يتبيّن، مع مرور الوقت، أن لهذا القرار طابعا استراتيجيا مرتبطا بتغيير موازين القوى في المنطقة بشكل حاسم ونهائي.
كذلك، لم يكن إدراج عبارة “الأكثرية الشيعية في العراق” في البيان الصادر عن مؤتمر لندن للمعارضة العراقية في كانون الأوّل- ديسمبر 2002 حدثا عابرا. ففي هذا المؤتمر الذي انعقد برعاية أميركية- إيرانية تبين، بوضوح ليس بعده وضوح، أنّ الهدف هو الانتهاء من العراق.
باتت الصورة مكتملة إلى حدّ كبير. هناك إدارة أميركية تنسّق مع قاسم سليماني، أي مع “الحرس الثوري” الإيراني في العراق بحجة الحرب على “داعش”. لماذا لا تستغل إيران هذا الوضع للذهاب في مشروعها إلى النهاية ما دامت الإدارة الأميركية لا تمانع في ذلك؟
كان المسؤولون الأميركيون في عهد جورج بوش الابن، الذي ارتكب جريمة احتلال العراق من دون التفكير في ما يجب عمله في اليوم الذي سيلي الاحتلال، يتحدّثون عن إعادة بناء البلد كي يصبح نموذجا لما يجب أن تكون عليه دول المنطقة. تبيّن في نهاية المطاف أن الهدف كان منذ البداية تفكيك العراق وليس التخلص فقط من صدّام حسين ونظامه.
كانت نقطة البداية حلّ الجيش العراقي بدل استخدام النواة الصالحة في الجيش من أجل إعادة بنائه كمؤسسة وطنية تجمع بين العراقيين، بدل أن تكون رمزا للشرذمة والروح المذهبية السائدة على كلّ صعيد.
مرّة أخرى، تبدو معركة الفلّوجة معركة إيران في العراق وذلك في ظل إدارة أميركية لا همّ لها سوى استرضاء طهران بكل الوسائل المتاحة. تعطي هذه المعركة فكرة عن عراق الغد كما تتطلع إلى ذلك إيران. هناك شرخ مذهبي عميق بين الشيعة والسنة. وهناك مفوض سام إيراني في العراق اسمه قاسم سليماني. وهناك “الحشد الشعبي”، بديل الجيش العراقي. هذا الحشد هو مجموعة ميليشيات تابعة لأحزاب مذهبية عراقية مرجعيتها الأولى والأخيرة في طهران.
كل ما تبقى يظل مجرّد تفاصيل، بما في ذلك الصيحات التي تصدر عن رجل الدين مقتدى الصدر بين حين وآخر، وتصرّفاته التي تصبّ في هدم ما بقي من مؤسسات الدولة.
يبقى سؤال أخير؛ هل السياسة التي اتبعتها إدارة باراك أوباما سياسة أميركية ثابتة تجاه العراق، أم أن قرب رحيل أوباما من البيت الأبيض يفسر هذا الاستعجال الإيراني في خلق واقع جديد على الأرض العراقية، بما في ذلك تعيين مندوب سام لطهران في بغداد؟