يصعب الكلام عن حرب اهليّة جديدة في لبنان، على الرغم وجود كلّ المؤشرات التي توحي بذلك. هذا عائد الى سبب واحد على الاقلّ. يتمثّل السبب في غياب أيّ موازين للقوى تسمح بمثل هذه الحرب.
يمكن الخروج بمثل هذا الاستنتاج في ضوء ما حصل يوم الخميس الواقع فيه 14 تشرين الاوّل – أكتوبر 2021، وهو يوم استعاد فيه اللبنانيون ذكرى 13 نيسان – ابريل 1975، يوم بداية حرب اهليّة لم يخرج منها لبنان بعد كلّيا.
في أساس كلّ ما حصل السلاح غير الشرعي الذي لا يزال يتحكّم بمصير الدولة اللبنانيّة. كان هذا السلاح فلسطينيا وصار ايرانيّا في مرحلة لاحقة. لم يتغيّر شيء منذ 1975... بل تغيّر الكثير. تغيّرت تركيبة المجتمع اللبناني المنفتح والمتنوّع وطبيعة بيروت نفسها التي عادت اليها الحياة لسنوات قصيرة بفضل مشروع إعادة بناء وسطها كي يكون مكانا يلتقي فيه جميع اللبنانيين. بيروت مكان يتّسع للبنانيين من كلّ الطوائف والمناطق وكلّ الطبقات الاجتماعيّة والمذاهب والطوائف. استطاع أعداء بيروت افراغ المدينة مجدّدا وتحويلها الى مدينة اشباح، لا أكثر، تعبيرا عن احقادهم التي لا حدود لها على عاصمة لبنان وأهلها...
ليس حدثا عاديّا اعتراض "حزب الله" وحركة "أمل" على طارق بيطار قاضي التحقيق في تفجير مرفأ بيروت والإصرار على "قبعه". عبارة "قبع" القاضي هي التي يستخدمها الحزب والحركة في تعاطيهما مع هذه القضيّة البالغة الحساسيّة على الصعيد الوطني من جهة وللقضاء على مناعة ما بقي من مؤسسات في الدولة اللبنانيّة، أي ما بقي من قضاء مستقلّ، من جهة أخرى.
يبدو الاعتراض على استمرار القاضي بيطار في مهمّته حدثا استثنائيا بكلّ معنى الكلمة. هذا ليس عائدا فقط الى انّه ارتكب أخطاء كبيرة عندما راح يأخذ التحقيق الى متاهات وزواريب بهدف اضاعته، عن طريق اتهام هذا الوزير السابق او النائب الحالي.
الامر عائد، بكل بساطة الى انّ القاضي فضّل في نهاية المطاف، لأسباب ستتكشّف يوما، الذهاب الى لبّ القضيّة. أي الى طرح الأسئلة التي كان يتوجب عليه طرحها منذ البداية من دون كلّ اللفّ والدوران اللذين اعتمدهما. إنّها أسئلة من نوع من وراء الاتيان بكميّات نيترات الأمونيوم الى مرفأ بيروت؟ من افرغها في أحد معابر المرفأ من خزنها طوال سبع سنوات؟ من حماها؟ الاهمّ من ذلك كلّه، من استخدم قسما من هذه المواد التي كان يخرجها من حرم المرفأ بين حين وآخر عندما تدعو الحاجة الى ذلك؟ ما وجهة الاستخدام لكمّيات نيترات الامونيوم التي خرجت من مرفأ بيروت؟
ثمّة أسئلة كثيرة يمكن ان تثار في شأن تصرّفات القاضي بيطار، بما في ذلك علاقته بمرجعيّة رئاسة الجمهوريّة حيث جبران باسيل الشخصية المهيمنة عبر بعض ازلامه. لعلّ اللافت للنظر امتناع القاضي عن الذهاب بعيدا عندما يتعلّق الامر بايّ شخصية مسيحية، باستثناء وزير سابق على علاقة بزعيم "تيار المردة" سليمان فرنجيّة الذي يعتبره جبران باسيل منافسه الاوّل على موقع رئيس الجمهوريّة في نهاية ولاية ميشال عون آخر تشرين الاوّل – أكتوبر 2022!
في كلّ الأحوال، بعيدا عن التلهّي بمعركة رئاسة الجمهوريّة اللبنانية، يتبيّن كلّ يوم انّ "حزب الله" مصرّ على اثبات انّ لبنان صار في تصرّفه، أي في تصرّف إيران. هذا معنى كلّ ما جرى في الايّام القليلة الماضيّة وما سيجري في الايّام المقبلة. سيتابع الحزب ضغطه لتأكيد انّ لبنان تغيّر كلّيا وان اعتراض اهل حيّ عين الرمّانة المسيحيين على التظاهرة التي نظمها مع حركة "امل" لن يكون ذا شأن، على الرغم من سقوط ضحايا من المشاركين في التظاهرة.
المهمّ في نهاية المطاف بلوغ مرحلة لا يعود فيها من يسأل عن حقيقة تفجير مرفأ بيروت. مثل هذه الكارثة الحقيقيّة لا وجود لها، من وجهة نظر الحزب، على الرغم من تدمير ثلث العاصمة اللبنانية وسقوط ما يزيد على مئتي قتيل وآلاف الجرحى ووقوع اضرار رهيبة في الممتلكات. على اللبنانيين إزالة تفجير المرفأ من ذاكرتهم، مثلما على اهل بيروت والجبل نسيان غزوتي العاصمة والمناطق الدرزيّة في السابع من ايّار – مايو 2008!
مطلوب من كلّ من في لبنان اخذ حجمه الحقيقي. هذا بلد لا وجود فيه سوى لسلاح واحد هو سلاح "حزب الله" ولا وجود فيه لأيّ مجال لأخذ وردّ عندما يتعلّق الامر بمصلحة "حزب الله" المكلّف إيرانيا مهمات خارج الأراضي اللبنانيّة. من هذا المنطلق، لم يدرك رئيس الجمهورية ميشال عون معنى اللعب، أو الدخول في مساومات وشدّ حبال، مع "حزب الله" في موضوع تفجير مرفأ بيروت. لم يدرك انّه كان عليه التزام الموقف الذي اتخذه في البداية، مباشرة بعد وقوع الكارثة، بمعنى قطع الطريق على ايّ تحقيق دولي في التفجير.
من الواضح، أنّ "حزب الله" لا يمزح. لن يقبل بايّ شكل بذهاب القاضي بيطار الى ابعد ما ذهب اليه. لن يقبل بان يكون موضوع بخطورة تفجير مرفأ بيروت منطلقا لتوجيه ايّ نوع من الاتهامات أليه. للحزب مهمات لا يمكن ان يقف لبنان عائقا في وجهها ولا يمكن ان يوجد في لبنان من يمنعه من تأديتها، اكان ذلك داخل لبنان نفسه او في سوريا والعراق... واليمن.
مرّة أخرى، يقع اللبنانيون ومعهم لبنان، ضحيّة السلاح غير الشرعي. ثمّة ثمن عليهم دفعه بعدما صار، هذا السلاح الشرعي الذي تتحكّم به إيران، يقرّر من هو رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة. كلّ ما في الامر، أنّ على اللبنانيين إدراك انّ بلدهم قاعدة في تصرّف "حزب الله" الذي لديه مهمات تتجاوز لبنان وارضه، وكلّ ما فيه من حجر وبشر.
بكلام أوضح، إن رسالة الحزب من خلف الإصرار على "قبع" القاضي واضحة كلّ الوضوح. ملخّص الرسالة انّ لبنان، بكلّ مؤسساته، تحت السيطرة الإيرانية... كلّ ما عدا ذلك أوهام!