خيرالله خيرالله
هناك دول تنهار من داخل. تنهار هذه الدول على نفسها. هذا ما نشهده في العراق في هذه الايّام. صمد العراق ما يزيد على عشر سنوات. هذا كلّ ما في الامر. ربّما تأخر الانهيار. لكن الطبيعي كان حصوله بعد انفلات الغرائز المذهبية بكلّ انواعها وأشكالها وبأسوأ ما يمكن أن تكون عليه.
مع انهيار العراق ستنفجر المنطقة، هناك دول مثل سوريا انفجرت فعلا، فيما لبنان على كفّ عفريت. ما يشهده العراق حاليا هو نتيجة مباشرة للاصرار الاميركي على الانتهاء من البلد الذي كان يشكل عمودا أساسيا من الأعمدة التي يقوم عليها النظام الاقليمي منذ عشرينات القرن الماضي. قرّر الاميركيون تغيير خريطة الشرق الاوسط. هل كان ذلك عن سابق تصوّر وتصميم؟ الثابت أن العراق كان نقطة الانطلاق.
قبل أحد عشر عاما وبضعة أيّام ، انعقد في لندن مؤتمر للمعارضة العراقية. كان غريبا، وربّما طبيعيا أكثر من اللزوم، انعقاد هذا المؤتمر بتوافق أميركي- ايراني مكشوف.
جاءت الاطراف المعارضة الى لندن، بمن في ذلك أكراد العراق، من طهران في طائرة واحدة. التحق مسعود بارزاني بالمؤتمر بعدما تأكّد، وقتذاك، من أن لا خيار آخر أمامه، نظرا الى أن الاميركيين اتخذوا قرارا لا عودة عنه بالتدخل عسكريا لاسقاط نظام صدّام حسين، أي النظام العائلي- البعثي الذي أخذ العراق من مغامرة الى أخرى.
على الرغم من ذلك، تصرّف مسعود بارزاني في لندن تصرّف رجل دولة من الطراز الرفيع داعيا، بشكل مسبق، الى التخلي عن فكرة الانتقام. دعا صراحة الى عدم ترك الغرائز تتحكّم بتصرّفات العراقيين بعد سقوط النظام. عدّد كم من أفراد عائلته، المباشرين، قتلوا على يد النظام. عدّد كم من أفراد عشيرته ذهبوا ضحية النظام. شدّد على أن المهمّ في المرحلة المقبلة تفادي الانتقام واقامة نظام ديموقراطي في البلد. قال صراحة:" لا أُريد الانتقام".
كان مسعود بارزاني يحلم. بعد أحد عشر عاما وبضعة أيّام على انعقاد مؤتمر لندن، الذي كان مؤشرا الى وجود قرار اتخذته ادارة جورج بوش الابن بالذهاب الى آخر المطاف في العراق، تبيّن أنّ لا مفرّ من الانتقام. كان اعدام صدّام حسين بالطريقة التي أعدم بها هو وأحد أخوته (برزان التكريتي)، دليلا على أن النظام الجديد في العراق لا يقوم سوى على فكرة الانتقام...من منطلق مذهبي للأسف الشديد.
ينفّذ هذا النظام العراقي الجديد كلّ ما تطلبه ايران منه. لدى ايران حقد قديم على العراق.هناك حساب مطلوب تصفيته مع العراق والعراقيين. حصل ذلك على مراحل. كان هناك ألف سبب وسبب لاعدام صدّام، انّما بعد محاكمة عادلة. لكن نوري المالكي رئيس الوزراء الحالي أختزل جرائم صدّام من زاوية مذهبية فقط. قرّر اعدام الرجل بسبب احداث الدجيل، وهي قرية شيعية، تعرّض فيها الرئيس العراقي المخلوع لمحاولة اغتيال. كان الردّ على المحاولة وحشيا، لكنّه لم يكن جائزا اعدام صدّام بسبب الدجيل...حيث هناك من حاول قتله في مرحلة ما بعد اندلاع الحرب العراقية- الايرانية في العام 1980!
قامت كلّ فكرة تغيير النظام في العراق، عن طريق احتلاله، على الانتقام. انتهى مؤتمر لندن ببيان يتحدّث، للمرة الاولى منذ قيام الكيان العراقي، عن "الاكثرية الشيعية".
لماذا كان ذلك الاصرار على هذه العبارة التي أخذت بعدا في غاية الخطورة لدى تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، مباشرة بعد الاحتلال الاميركي للبلد؟
تشكّل مجلس الحكم في تموز- يوليو 2003 من منطلق مذهبي بحت. كانت الفكرة الاساسية خلف تشكيله تهميش السنّة العرب. هل كان ذلك شرطا من الشروط التي وضعتها ايران من أجل جعل فئات شيعية مرتبطة بها تشارك في مؤتمر لندن؟
منذ تشكيل مجلس الحكم، عندما كان الاميركي بول بريمر حاكما فعليا للعراق، لم يتغيّر شيء. تبيّن مع مرور الوقت أنّ ايران، التي كانت شريكا فاعلا في الحرب الاميركية على العراق، تحولت الى صاحب الكلمة الاولى والاخيرة في البلد. يدفع العراق حاليا ثمن هذه المشاركة في الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وتولّت تمويلها بالمال والرجال...من أجل تقديم العراق على صحن فضّة الى ايران!
ما كان مخفيا في الماضي القريب، صار مكشوفا الآن. هناك انسداد سياسي في العراق. أدى هذا الانسداد، الذي في أساسه الرغبة في الغاء المكوّن السنّي العربي، الى انفجار البلد من داخل وانهياره. دمّر النظام العراقي الجديد نفسه بنفسه. ظهر بوضوح انالنظام الجديد غير قابل للحياة نظرا الى أنه يقوم على فكرة الانتقام والغاء الآخر والاستئثار بالسلطة لمصلحة ايران.
من الطبيعي في مثل هذه الحال أن ينأى الاكراد بنفسهم عن الصراع الداخلي وأن يبحثوا عمّا يضمن مصالحهم. فالى جانب تأكيد بيان مؤتمر المعارضة العراقية في لندن (كانون الاوّل- ديسمبر 2002) على "الاكثرية الشيعية"، تضمّن البيان عبارة أخرى في غاية الاهمّية. تحدّث البيان أيضا عن "الفيديرالية". وُضعت هذه الكلمة من أجل ارضاء الاكراد وضمان مشاركتهم في مؤتمر لندن.
بدأ انهيار النظام الاقليمي من العراق. ما نراه اليوم هو جانب من تداعيات هذا الحدث الذي سهّل لايران التوغّل في العمق العراقي من منطلق مذهبي واحكام قبضتها على سوريا وعمل كل ما تستطيع من أجل أن تكون صاحبة الكلمة الاولى والاخيرة في لبنان.
في الايّام الاخيرة من السنة 2013، تأكّد أن لا أفق سياسيا في العراق، أقله في المدى المنظور. لم يعد هناك مجال لتفاهم بين السنّة العرب وقسم من المكوّن الشيعي الذي يمثله المالكي والدائرة المحيطة به، خصوصا بعد أحداث الانبار وتقديم ما يزيد على أربعين نائبا سنّيا استقالاتهم. ما نشهده ليس انهيارا للعراق وحده. نشهد انهيار لنظام اقليمي بالكامل.فالعراق لم يكن سوى بداية.
هل هذا ما كان يريده جورج بوش الابن أصلا، أم ان الرجل كان من السذاجة الى حدّ لم يدرك أنّ قراره باحتلال العراق كان تمهيدا لاعادة تشكيل الشرق الاوسط واعادة رسم خرائط الدول؟