إيران وروسيا ستستغلان الوضع التركي قدر المستطاع بهدف تطويق أردوغان. ستستغلان خصوصا نقاط الضعف لدى أردوغان الذي يخوض حاليا معركة العمر على كل صعيد.
أين تقف تركيا من كلّ ما يجري في سوريا، خصوصا في ظلّ الغارات التي يشنها الطيران الروسي من قاعدة في منطقة همدان الإيرانية والتطور اللافت المتمثل في شنّ النظام السوري لهجمات على الأكراد؟
يبدو أن تركيا مطمئنة إلى أن حلب لا يمكن أن تسقط في يد النظام، أي في يد الميليشيات المذهبية التي تدعمه والتي تقف إيران خلفها. هذا ليس سببا كافيا كي تتخذ تركيا موقفا قريبا من موقف المتفرّج حيال ما يدور في سوريا في وقت يبدو رجب طيب أردوغان منهمكا في استكمال انقلابه على مؤسسات الدولة العميقة التي يرمز إليها الجيش التركي من جهة والإسلام الصوفي لفتح الله غولن من جهة أخرى.
من المشروع التساؤل إلى أيّ حد ستستغل روسيا وإيران انهماك الرئيس التركي في ترتيب أوضاعه الداخلية، من دون تجاهل أنّ حلب قضية تركية داخلية وأن سقوطها في يد إيران ستكون له انعكاساته على أردوغان نفسه.
من الواضح، ردّا على هذا التساؤل أن إيران وروسيا ستسعيان إلى استرضاء تركيا كي تعمل في ظلّهما وبما لا يتعارض مع طموحاتهما. هذا ما يفسّر إلى حدّ كبير انتقال النظام السوري إلى شنّ هجمات على الأكراد. حصل ذلك في الحسكة يوم الخميس الماضي. لم يكن للنظام، الذي بات مجرّد لعبة في يد روسيا وإيران، الإقدام على هذه الخطوة من دون موافقة هذين الطرفين على ذلك.
لا شكّ أن العامل الكردي يلعب دوره في أيّ تقارب بين أنقرة من جهة وكلّ من موسكو وطهران من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك، يبدو أنّ القبول الروسي ـ الإيراني بأن حلب والمنطقة المحيطة بها منطقة نفوذ تركية، سيساهم إلى حدّ كبير في تهدئة أردوغان وطمأنته إلى أنّه لن يتعرّض لهزة مصدرها سوريا.
سيساعد ذلك الرئيس التركي في استكمال انقلابه على الدولة العميقة في تركيا وعلى الإسلام الذي يمثّله غولن، وهو إسلام مترسّخ في برّ الأناضول، فيما الحال الإخوانية التي يسعى أردوغان إلى فرضها حال طارئة على المجتمع.
يبقى الإخوان المسلمون حالا طارئة في تركيا على الرغم من النجاحات الاقتصادية التي حققها حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة والتي رفعت تركيا إلى مستوى دولة مثل سويسرا في المجال الاقتصادي. تفوّقت تركيا على أسبانيا مثلا وباتت لها مكانة يصعب تجاهلها بين القوى الاقتصادية العالمية على الرغم من عدم امتلاكها أيّ ثروات طبيعية.
ستستغل إيران وروسيا الوضع التركي قدر المستطاع بهدف تطويق أردوغان. ستستغلان خصوصا نقاط الضعف لدى أردوغان الذي يخوض حاليا معركة العمر على كلّ صعيد، بما في ذلك وضع اليد على المؤسسة العسكرية والانتهاء من نفوذ غولن في أوساط رجال الأعمال.
ليس صدفة أن الإعلان عن الرغبة في إقامة مركز قيادة للجيش خارج أنقرة، أي بعيدا عن وسط العاصمة، تزامن مع حملة على مئة وسبعة وثمانين من كبار رجال الأعمال يُعتبرون موالين لغولن. الهدف واضح كلّ الوضوح ويتمثّل في استكمال كسر هيبة الجيش كمؤسسة مستقلة تمتلك هامشا للمناورة خاصا بها.
لم تقتصر عملية استمالة أردوغان على فلاديمير بوتين والقيادة الإيرانية التي جعلت الأمين العام لـ”حزب الله” في لبنان السيد حسن نصرالله يمتنع في خطابه الأخير عن شنّ أيّ هجوم على تركيا، بعدما كان ذلك أحد اختصاصاته ومن بين المهمّات المكلّف بها، إضافة بالطبع إلى القيام بحملات على المملكة العربية السعودية..
هناك أيضا رغبة إسرائيلية في تلميع صورة الرجل. الدليل على ذلك، التسوية التي توصلت إليها إسرائيل وتركيا في شأن سفينة “مرمرة”. استهدفت التسوية إنقاذ ماء الوجه لأردوغان الذي كان يريد فكّ حصار غزّة عبر سفينة مساعدات. ستدفع تركيا عشرين مليون دولار تعويضات لذوي المواطنين الأتراك الذين كانوا على “مرمرة” والذين قتلتهم قواتها عند إغارتها على السفينة في البحر في العام 2010.
هناك باختصار عملية تدجين لأردوغان يشارك فيه غير طرف. يبقى السؤال الأهمّ هل سيكون لذلك تأثير على الوضع السوري؟ هل تكفي طمأنة الرئيس التركي إلى أن إيران لن تدخل حلب، عبر ميليشياتها المذهبية وعبر “شبيحة” النظام كي تستكين تركيا وتنسى أنها نادت منذ البداية بضرورة رحيل بشّار الأسد؟ أخيرا هل يكشف أردوغان أنّ الهمّ الأول لتركيا، بعد معركته الداخلية طبعا، هو الهمّ الكردي؟
كان لافتا ذلك الغزل بالرئيس التركي عندما جاء وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى أنقرة قبل بضعة أيّام. استخدمت إيران الزيارة لتأكيد أنّها شريك في الحرب على الإرهاب، علما أن كلّ ما تفعله إيران في المنطقة، إن في سوريا أو العراق أو لبنان أو اليمن، عبر إثارة الغرائز المذهبية، هو توفير حاضنة للإرهاب المتمثل بـ”داعش” ومن على شاكلته من تنظيمات إرهابية سنيّة.
تكمن مشكلة الرئيس التركي في أنّه يبحث بين حين وآخر عن تعزيز لشعبيته عن طريق المزايدات الرخيصة التي لا تؤدي إلى نتيجة. باع الفلسطينيين الأوهام في غزّة وباع السوريين وعودا ومواقف.
صحيح أنه لا يمكن تجاهل أن تركيا قدّمت، مشكورة، مساعدات كبيرة للمعارضة السورية وللاجئين إلى أراضيها، لكنّ الصحيح أيضا أنّ تركيا وقفت عاجزة أمام ما يرتكب من مجازر في هذا البلد.
الأكيد أن الموقف الأميركي، القائم على مسايرة إيران، لعب دورا أساسيا في لجم الطموحات التركية، لكنّ أردوغان لم يحسن في أيّ وقت لعب أوراقه السورية مدخلا نفسه في سوق المزايدات والوعود غير القابلة للتحقيق كاشفا نفسه أمام الإيرانيين والروس وحتّى الإسرائيليين..
يعرف الرئيس التركي في الوقت الحاضر أن الحملة على الولايات المتحدة وعلى أوروبا يمكن أن تعزّز شعبيته. يراهن على مثل هذا النوع من الحملات، فيما الجميع يعرف أن مشكلته في النهاية، بعدما أفشل الانقلاب الذي تعرّض له، هي في الداخل التركي.
ربّما من بين الأسباب التي تدفع كلّا من إيران وروسيا إلى دعم الرئيس التركي في هذه المرحلة تمكينه من الانصراف إلى الانتهاء من الانقلاب المضاد الذي يقوده على الجيش وعلى جماعة غولن. هذه معركة طويلة تحتاج إلى جهود كبيرة في ظل الصعوبات التي تواجه تركيا.
من بين هذه الصعوبات، على سبيل المثال وليس الحصر تدهور العلاقات مع أوروبا عموما ومع الولايات المتحدة الداعمة للأكراد في شكل خاص. أمّا على الصعيد الاقتصادي الذي يهمّ أردوغان كثيرا، يكفي أن مداخيل القطاع السياحي تراجعت بنسبة أربعين بالمئة للتأكد من أن الطريق إلى قيام دولة تركية على مقاس أردوغان وفكره الإخواني ما زالت طويلة، بل طويلة جدا.
هذا ما يدركه الروسي والإيراني والإسرائيلي.. لماذا لا يستغلون جميعا نقاط الضعف الأردوغانية هذه في سوريا وفي غير مكان من المنطقة أيضا؟ لماذا لا يعملون على استنزاف أردوغان وتطويقه، ومن خلاله استنزاف تركيا وتطويقها؟