أكدّ العمل الإرهابي الأخير الذي تعرّض له حرس الحدود الأردني في منطقة حدودية مع سوريا حجم الاستهداف الذي تتعرّض له المملكة الأردنية الهاشمية التي استطاعت أن تكون استثناء في المنطقة. كانت هناك سيارة مفخخة انطلقت من مخيّم الرقبان في الأراضي السورية، وهو مخيّم يحصل أهله على مساعدات من الأردن. انفجرت هذه السيارة عند نقطة عسكرية فسقطت ست ضحايا أردنية (أربعة من حرس الحدود وآخران من الأمن العام والدفاع المدني).
لا يبدو هذا العمل الإرهابي معزولا عن الاعتداء على موقع المخابرات الأردنية في مخيّم البقعة الفلسطيني قبل أسبوعين، والذي سقط فيه خمسة من المنتمين إلى هذا الجهاز الذي يشكل جزءا لا يتجزّأ من هيبة الدولة في المملكة.
هناك جهات مختلفة تسعى إلى النيل من الأردن وذلك في وقت تعاني فيه المملكة من أزمة اقتصادية تعود أساسا إلى الوضع الناجم عن استضافة ما يزيد على مليون ونصف مليون سوري في بلد لا يمتلك أي ثروات طبيعية كما يعاني من شحّ المياه. كذلك من بين أسبـاب الأزمة الاقتصادية هبوط أسعار النفط وتراجع تحويلات المواطنين العاملين في دول الخليج العربي. فضلا عن ذلك، هناك الوضع العراقي بكلّ سلبياته الـذي انعكس بشكل سيء على الأردن الذي كان في الماضي يحصل على قسم من نفطه من هذا البلد الجار بأسعار مخفّضة.
من بين الجهات التي تستهدف الأردن التنظيمات الإرهابية مثل “القاعدة” و”داعش” وما تفرّع عنهمـا، وكلّ من النظامين في سوريا وإيران. معروف أنّ النظام السوري يعمل دائما على الهرب إلى الخارج من أزمته الداخلية التي لا حلّ لها سوى برحيله، فيمـا لدى إيران حسابات قديمة تريد تصفيتها مع الأردن. لم يتردد مسؤولون إيرانيون في ترديد خلال جلسات خاصة أن “الجمهورية الإسلامية” تعتبر الأردن “حلقة ضعيفة” في المنطقة، وأنّ من السهل استخدامه “ساحة” يوما مّا، مثلما يستخدم لبنان الذي بات مجرّد ورقة إيرانية بفضل الخدمات التي يقدّمها “حزب الله” لطهران.
ليس سرّا أن كلّ الأطراف التي تستهدف الأردن لا تعرف شيئا عن تاريخ المملكة وقدرتها على مواجهة التحدّيات المختلفة في ظروف أقلّ ما يمكن أن تـوصف به أنّها صعبة ومعقدة. لو كانت هذه الأطراف تعرف شيئا عن الأردن لما استسهلت الدخول معه في مواجهات مباشرة وغير مباشرة، كما يفعل النظامان السوري والإيراني اللذان ليسا بعيدين عن “داعش” وعن كيفية استخدام هذا التنظيم الإرهابي لتحقيق مآرب معيّنة. من بين هذه المآرب استهداف دول عربية معيّنة من جهة، وإظهار النظام السوري، الذي أخذ على عاتقه ذبح شعبه، بأنه شريك في الحرب على الإرهاب من جهة أخرى.
كان على الأردن اتخاذ كل الإجراءات المطلوبة لحماية أمنه القومي، بدءا بإغلاق حدوده الشمالية والشمالية الشرقية مع سوريا. تبيّن، بكلّ بساطة، أن هناك تنظيمات إرهابية تمتلك خلايا في المخيّمات السورية الواقعة في منطقة الحدود مع الأردن. فضّل الأردن إبقاء هذه المخيمات خارج أراضيه، لكنّه يرسل إليها المساعدات ذات الطابع الإنساني وذلك احتراما منه للمبادئ والقيم التي التزمتها المملكة منذ تأسست في أعقاب “الثورة العربية الكبرى”.
لا شكّ أنّ العمل الإرهابي الأخير سيدفع السلطات الأردنية إلى المزيد من التشدّد والحذر، خصوصا في ظل وجود من يعمل من أجل ضرب الوحدة الوطنية عبر نشاط للمنظمات الإرهابية في داخل المخيّمات الفلسطينية. فتح العمل الإرهابي الأخير العيون على أن ما حدث في مخيّم البقعة لم يكن حدثا معزولا، بمقدار ما أنّه جزء من مخطط يصبّ في إثارة الاضطرابات في الأردن، ومنعه من لعب الدور الذي يلعبه على الصعيد الإقليمي.
يتمثّل هذا الدور في المشاركة بفعالية في الحرب على الإرهاب، خصوصا على “داعش”. كذلك يقوم الدور الأردني على دعم الحلّ السياسي في سوريا، ومساعدة ما بقي فيها من قوى اعتدال من منطلق أنّ إطالة الحرب الدائرة في البلد لا تؤدي إلى تقسيم البلد فحسب، بل هي الطريق الأقصر لتحوّله حاضنة لكلّ التنظيمات الإرهابية أيضا، سواء أكانت هذه التنظيمات شيعية أم سنّية.
هناك فوق ذلك كلّه دور أردني على صعيدين؛ الأوّل الدفع في اتجاه قيام دولة فلسطينية مستقلّة. فالملك عبدالله الثاني لم يتخلَّ يوما عن خطاب سياسي يؤكد أن التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين تساهم في تثبيت الاستقرار في الشرق الأوسط وتلعب دورا في مواجهة الإرهاب بكلّ أشكاله. ذهب العاهل الأردني إلى الكونغرس، بمجلسيْه، ليقول مثل هذا الكلام في السابع من آذار ـ مارس من العام 2007. لم يحد يوما عن هذا الخطّ، قبل خطاب الكونغرس وبعده. هل يدفع الأردن ثمن هذا الثبات على موقف واضح ينطلق من أن من مصلحته ومصلحة الاستقرار في المنطقة الانسحاب الإسرائيلي من الضفّة الغربية، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية؟
أما الصعيد الآخر الذي لا بدّ من التوقف عنده، فيتمثّل في الخطاب الأردني القائم على أن الحرب على الإرهاب والتطرف هي “حرب المسلمين أوّلا”. قاتل الأردن عبر عبدالله الثاني الإرهاب والتطرّف على جبهات عدّة، بدءا بالعمل على نشر التسامح وقيم الاعتدال (رسالة عمّان للعام 2004) وتأكيد دور المسيحيين في المشرق العربي، ثم السعي إلى عدم السقوط في فخّ الحرب المذهبية السنّية – الشيعية. حمل خطابه إلى مختلف أنحاء العالم، إلى أوروبا والولايات المتحدة. أكثر من ذلك، حذّر في الوقت ذاته أوروبا من تجاهل ما يدور في دول البلقان التي فيها أكثريات مسلمة. دعا إلى الاعتدال والاعتراف بالآخر، دفاعا عن الإسلام أوّلا وعن قيمه مندّدا بمن سمّاهم في كلّ الوقت “الخوارج”.
منذ بدأت حرب الإرهابيين على الأردن، عرفت المملكة كيف تدافع عن نفسها. في كلّ يوم يمرّ تزداد الأخطار المحدقة بها. الأردن في عين العاصفة، خصوصا أن هناك من يراهن على خلق بؤرة توتر جديدة في المنطقة. نسي هؤلاء المراهنون على خلق بؤر التوتّر أن الأردن تجاوز “الربيع العربي” على الرغم من كلّ المحاولات التي بذلها الإخوان المسلمون وغيرهم من أجل خطف هذا “الربيع”، واستغلاله لمصلحة تحقيق أهداف مريبة.
لا مجال للردّ على أولئك الذين يراهنون على الإرهاب سوى عبر التصدّي الحازم لهم من جهة، والإصرار على إجراء الانتخابات النيابية في أيلول – سبتمبر المقبل من جهة أخرى. لن يغيّر الإرهاب شيئا في الأردن وفي سياسة الأردن القائمة على التصدي للإرهاب، علما أن ليس في الإمكان تجاهل عمق الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها البلد، وهي أزمة تفرض مساعدته عربيا الآن أكثر من أي وقت مضى، أقلّه في مجال تحمّل عبء اللاجئين السوريين. سيزداد هذا العبء يوميا خصوصا أن ليس هناك ما يشير إلى أن الحل السياسي في سوريا، بغض النظر عن طبيعة هذا الحلّ، سيكون غدا…