خيرالله خيرالله
تكمن أهميّة الخطاب الذي ألقاه الملك محمّد السادس في مناسبة ذكرى عيد العرش في الوضوح والكلام المباشر. العاهل المغربي الذي اعتلى العرش قبل اربعة عشر عاما متصالح مع نفسه وشعبه قبل أي شيء آخر. تبيّن أن هذا واقع قائم يمكن التحقّق منه يوميا.
يعرف محمّد السادس تماما أن الاصلاحات ليست موسمية، بل تتطلب جهدا مستمّرا، بل جهدا دائما وذلك من أجل بناء دولة عصرية يمكن ان يفخر بها كل عربي من المحيط الى الخليج.
بات في الامكان الكلام عن الاستثناء المغربي في ظلّ العواصف التي تضرب الشرق الاوسط. ما يسمح بهذا الاستثناء الابتعاد كل البعد عن أي نوع من التطرف. على العكس من ذلك، هناك، في المغرب، صورة مختلفة عن كلّ ما عداها في المنطقة، خصوصا في شمال افريقيا. انّها صورة "المغرب الغنيّ بهويته المتعددة الروافد اللغوية والاثنية". لعلّ أكثر ما كان ملفتا في الاستقبال الذي أقيم في القصر الملكي في الدار البيضاء وفي الافطار الذي تلاه ذلك الوجود لرجال دين مسلمين ومسيحيين ويهود وتقليد حاخام الرباط أحد ارفع الاوسمة المغربية.
يأتي الانفتاح المغربي القائم على ثقافة الاعتراف بالآخر وعلى أن التفاعل بين مكونات المجتمع مصدر غنى للملكة، من منطلق أن محمد السادس يعتبر نفسه مسؤولا عن كلّ مواطن مغربي، اضافة الى أنّه رجل عصري على تماس مع ما يدور في العالم.
انه يعرف أن ثقافة الاعتراف بالآخر تمثل الطريق الاسلم وحتى الاقصرلمواجهة كلّ ما له علاقة بالتطرّف والارهاب والتخلّف. ولذلك، يقول محمّد السادس:"لن يتمّ حفاظنا على هويتنا وصيانتها من مخاطر الانغلاق والتحريف، الاّ بالفهم السليم لديننا. ومن ثمّ، ما فتئنا منذ اعتلائنا العرش، حريصين بصفتنا اميرا للمؤمنين وحاميا لحمى الملّة والدين على صيانة الهويّة الاسلامية لشعبنا باعتبارها تشكّل نموذجا مغربيا متميّزا في الممارسة للاسلام، عقيدة سمحة ووحدة مذهبية مالكية قائمة على الوسطية والاعتدال".
صار المغرب من البلدان القليلة، بل النادرة في عالمنا العربي وحتى في المنطقة كلّها، التي نرى فيها علاقات طبيعية بين مكوّنات المجتمع من دون عقد. لم يكن ذلك ممكنا لولا الملك محمد السادس الذي يوفّر لابناء شعبه نموذجا في الانفتاح من جهة والابتعاد عن كلّ ما من شأنه اثارة الغرائز البدائية من جهة أخرى. فتقديم القدوة الحسنة للمواطن العادي يساهم في تثقيفهوجعله يقتنع بأن المستقبل هو للدول والشعوب التي لا تخشى من الاختلاف بمقدار ما تعتبره جزءا من ثقافة مستنيرة تنتمي الى المستقبل وتسمح في الوقت ذاته للمغرب في أن يكون على تماس مع اوروبا ومع عمقه الافريقي وقادر على ممارسة دوره العربي الطبيعي. والدور العربي يعني، بينما يعني، العلاقة المميّزة مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي قررت توفير مساعدات كبيرة للمغرب والدخول معه في شراكة اقتصادية وسياسية، أي "شراكة استراتيجية"...كما يعني عمل العاهل المغربي بصفة كونه رئيسا للجنة القدس على الدفاع عن "القضيّة الفلسطينية العادلة".
وجه محمّد السادس في خطاب عيد العرش رسائل في اتجاهات عدة. أكّد للمغاربة أن لا عودة عن الاصلاحات وأن ورشة البناء مستمرّة وأن الاصلاحات تشمل كلّ القطاعات بما في ذلك القضاء نظرا الى أن الهدف "تحقيق العدالة الاجتماعية التي هي أساس التماسك الاجتماعي".
أمّا بالنسبة الى دول الجوار، في مقدّمها الجزائر، فكان خطاب العاهل المغربي من النوع الذي لا لبس فيه
. قال ما يجب قوله عن أن الجزائر، استنادا الى القرار الاخير الصادر عن مجلس الامن، "معنية" بقضية الصحراء المغربية. طمأن المغاربة الى أنّه "تم تحقيق المزيد من التعاطف الدولي مع قضيتنا الاولى، على أساس المام بحيثيات وحدتنا الترابية وملابساتها. وهذا الامر يتجلّى في الدعم المتنامي لمبادرتنا الوجيهة المتمثلة في الحكم الذاتي".
ولا حظ أنّ "القرار الأخير لمجلس الامن أكّد بصفة حازمة المعايير التي لا محيد عنها للتوصّل الى الحلّ السياسي والتوافقي والواقعي. كما يبرز هذا القرار بصفة خاصة البعد الاقليمي لهذا الخلاف، كذلك مسؤولية الجزائر التي تعدّ معنية به سواء على المستوى السياسي أو على المستوى القانوني الانساني المتعلّق بالوضعية المهينة لمخيمات تندوف. وعملا بالقرار نفسه، يتعيّن عدم التعاطي مع مسألة حقوق الانسان الاّ من خلال الآليات الوطنية، خصوصا المجلس الوطني لحقوق الانسان الذي يحظى بصدقية دولية".
ما يمكن قوله في هذا المجال أنّ العاهل المغربي قرّر أخيرا تسمية الاشياء باسمائها، خصوصا أن الهدف الجزائري الواضح والمستمر منذ ما يزيد على اربعة عقود يتمثّل في شنّ حرب استنزاف على المغرب عن طريق استخدام اداة اسمها جبهة "بوليساريو".
لم يكن "الربيع العربي" نقمة على المغرب، كما في بلدان اخرى مثل مصر وتونس وليبيا. يتبيّن يوميا أن هناك بلدا عربيا يمتلك قيادة واعية قادرة على فهم ما يدور داخل البلد وفي المنطقة. استطاع هذا البلد تحويل النقمة الى نعمة، لا لشيء سوى لأنّ محمد السادس باشر الاصلاحات منذ اليوم لاعتلائه العرش. اعلن منذ اليوم الاوّل لبداية عهده أن حربه الاولى هي الحرب على الفقر. ادرك باكرا أن الفقر في اساس كلّ العلل، بما في ذلك التطرّف والارهاب.
في السنوات الاربع عشر الاخيرة، هناك محطات كثيرة في مسيرة المغرب، من بينها محطة استقبال سجناء سياسيين سابقين في القصر الملكي. في السنة 2013، جاءت الرسالة واضحة وفحواها أن محمّد السادس "سيواصل قيادة المسيرة الديموقراطية والتنموية للشعب المغربي". على كلّ من لديه ادنى شكّ في ذلك، القيام بزيارة، ولو خاطفة، للمغرب!