حلّ الحوثيون، أي “أنصار الله” في اليمن، بإصدارهم إعلانا دستوريا، مكان الدولة ومؤسساتها، أو ما بقي منها على الأصحّ. يشكّل حلّ مجلس النوّاب أهمّ القرارات التي اتخذوها، نظرا إلى أنّ المجلس كان المؤسسة الوحيدة الباقية والتي يمكن من خلالها إضفاء شرعيّة ما على مجلس رئاسي، أو رئيس انتقالي. مثل هذا الرئيس الانتقالي الذي كان يمكن أن يكون رئيس المجلس، يمكن أن يساعد في العودة إلى مرحلة انتقالية حقيقية تراعي التوازنات الداخلية وتؤدي في الوقت ذاته إلى تجاوز حال التخبّط التي تعاني منها كلّ القوى السياسية، من دون أي استثناء، في البلد. لا شكّ هنا أن الخاسر الأكبر من حلّ مجلس النوّاب هو الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي يمتلك الحزب الذي يرأسه (المؤتمر الشعبي العام) أكثرية فيه.
ما حدث هو في واقع الحال تتمّة طبيعية لمسيرة “أنصار الله” التي بدأت من صعدة قبل ما يزيد عن عشر سنوات، وما لبثت أن تمدّدت ابتداء من مطلع العام 2011 بعدما حاول الإخوان المسلمون الانقلاب على علي عبدالله صالح. كانت المحطة الرئيسية في هذه المسيرة السيطرة عسكريا وأمنيا على صنعاء في الحادي والعشرين من سبتمبر الماضي. ما يبدو مفيدا التذكير به أنّ الحرب الأولى التي خاضوها مع الجيش اليمني كانت في العام 2004، قبل أحد عشر عاما.
في سبتمبر الماضي، فرض الحوثيون بقوّة السلاح اتفاق “السلم والشراكة” الذي باركته الأمم المتحدة عبر جمال بنعمر المبعوث الشخصي للأمين العام للمنظمة الدولية. كذلك وقّعت معظم الأحزاب والقوى السياسية الاتفاق، الذي نسف عمليا المبادرة الخليجية وكلّ ما أسفر عنه الحوار الوطني. حصل ذلك، للأسف الشديد، بحضور الرئيس الانتقالي المستقيل عبدربّه منصور هادي.
لم يكذب زعيم “أنصار الله” عبدالملك الحوثي على أحد. نفّذ ما وعد به وما يعتقد أنّه صحيح من وجهة نظره. بالنسبة إلى عبدالملك الحوثي، هناك “شرعية ثورية” حلت مكان الشرعية الدستورية. هناك بكلّ بساطة نظام جديد في اليمن اسمه “ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر” حلّ مكان النظام الجمهوري الذي نشأ إثر “ثورة السادس والعشرين من سبتمبر” من العام 1962 التي أنهت النظام الإمامي.
قال عبدالملك الحوثي بالفم الملآن إنّ هناك عودة إلى النظام الإمامي. أعلن نفسه عمليا إماما يحكم اليمن من صعدة. أصبح يحتلّ دور “المرشد” الذي يشكّل السلطة العليا، على غرار ما هي عليه الحال في نظام “الجمهورية الإسلامية” في إيران.
ما ساعد الحوثيين في الوصول إلى ما وصلوا إليه عوامل عدّة. في مقدّم هذه العوامل أنّهم يعرفون ماذا يريدون. كانوا يريدون في البداية توسيع الإقليم الذي خُصص لهم نتيجة الحوار الوطني وذلك كي يكون لديهم ميناء بحري، هو ميناء ميدي في محافظة حجّة التي هي معقل الزيدية في اليمن. لم يجد “أنصار الله” عوائق تذكر في السيطرة على حجّة بعدما فتحت لهم السيطرة على محافظة عمران وطرد آل الأحمر، زعماء قبيلة حاشد منها، أبواب صنعاء. أخذ “أنصار الله” حجّة والميناء في طريقهم إلى العاصمة…
استفاد الحوثيون إلى أبعد حدود من غياب الرغبة لدى الرئيس الانتقالي في وقف تمددهم، خصوصا أنّ عبدربّه منصور كان يراهن على الاستنزاف المتبادل بينهم وبين خصومهم، وعلى رأسهم الإخوان المسلمون. كانت المفاجأة الانهيار الكامل للألوية العسكرية الموالية للإخوان. إنهار اللواء 310 في عمران، ثمّ انهارت الفرقة الأولى ـ مدرّع التي كانت بإمرة اللواء على محسن الأحمر.
انطلاقا من صنعاء، حاول الحوثيون التمدّد في كلّ الاتجاهات، بما في ذلك ساحل تهامة ومدينة الحديدة، أهمّ الموانئ اليمنية على البحر الأحمر. لكنّ نزهة الحوثيين التي بدأت مع سقوط صنعاء انتهت سريعا. اصطدموا بالحائط الشافعي في طريقهم إلى باب المندب في الجنوب من جهة وفي طريقهم إلى محافظات الوسط، التي عاصمتها تعز، ومحافظة مأرب من جهة أخرى. لم يحسبوا لهذا الحائط حسابا. كان الاعتقاد السائد لدى “أنصار الله”، ومن خلفهم إيران، أن الاختراقات التي حقّقوها في الوسط والجنوب كفيلة بتمكينهم من السيطرة على اليمن كلّه. لم يدركوا باكرا حجم الغرائز المذهبية التي أثاروها. ترتب عليهم منذ نحو شهر إعادة حساباتهم والارتداد على صنعاء مجددا من أجل الإمساك بها وإقامة دولة خاصة بهم تدور في الفلك الإيراني. وهذا ما يفسّر إلى حدّ كبير استخدام اتفاق “السلم والشراكة”، وهو اتفاق لا شرعية له، غير شرعية قوّة السلاح، من أجل الانقضاض على الرئاسة. أخرجوا عبدربّه منصور من دار الرئاسة وفرضوا الإقامة الجبرية عليه بعد رفضه تشكيل غطاء لعملية الاستيلاء الكامل على مؤسسات الدولة الموجودة في العاصمة وإعادة تشكيل القوات المسلّحة والأجهزة الأمنية.
تأخّر عبدربّه طويلا في تقديم استقالته. كان عليه أن يفعل ذلك بعد انتصار الحوثيين في عمران أو بعد سيطرتهم الكاملة على صنعاء بواسطة “اللجان الشعبية” التي ليست سوى ميليشيا مذهبية مثل ميليشيا “حزب الله” في لبنان أو الميليشيات الحزبية في العراق… أو ميليشيات “حماس″ في قطاع غزّة.
ما يؤكده “الإعلان الدستوري” الصادر عن الحوثيين هو أن رهانهم على حكم كلّ اليمن لم يعد قائما. كان علي عبدالله صالح أوّل من تكهّن بذلك عندما قال في اتصال مع صديق له إن “شمال الشمال لا يمكن أن يحكم كلّ اليمن”.
هل ينجح “أنصار الله” في حكم دولة شمال الشمال؟ الثابت أنّهم سيستخدمون كلّ ما لديهم من قوّة للإمساك بصنعاء وتكريس نوع من الوجود في البيضاء وإب، إضافة بالطبع إلى ساحل تهامة حيث ليس مستبعدا أن يواجهوا مقاومة في مرحلة ما على الرغم من أن المواطنين هناك من النوع المسالم.
الثابت أيضا أنّ “أنصار الله” تخلّوا عن حلم حكم كلّ اليمن. هذا يعني أن هناك أسئلة كثيرة ستطرح في المستقبل. من بين هذه الأسئلة ما هو متعلّق بمدى قبول الزيود في اليمن أن يكونوا تحت هيمنة الحوثيين الذين ليسوا سوى فرع من فروع المذهب. كذلك هناك سؤال يتعلّق بقدرة ايران على الاستثمار في دولة جديدة تابعة لها عاصمتها صنعاء. هل مثل هذه الدولة قابلة للحياة، أم أن تجربة قطاع غزّة يمكن أن تتكرّر على جزء من اليمن؟
الأهم من ذلك كلّه ما مصير الوسط والجنوب. كم عدد الدول التي ستقوم هناك؟ هل يمكن إبقاء الجنوب موحّدا؟ هل تصمد مأرب طويلا؟ ما مصير الجوف ذي الحدود الطويلة مع المملكة العربية السعودية؟
أرادت إيران تسجيل نقطة لمصلحتها في اليمن. أرادت القول إنّ الأوراق الإقليمية التي تمسك بها كثيرة. رسالتها موجّهة إلى أهل الخليج وإلى الولايات المتحدة. هذا لا يمنع القول إن ارتداد إيران، عبر “أنصار الله” في اتجاه صنعاء بداية لانكماش في مشروعها اليمني ودليل ضعف أكثر مما هو دليل قوّة.