لا يمكن عزل تمدد 'داعش' دون معالجة الأساس. هذا الأساس متمثل في وجود نظام سوري لا يقل خطورة عن 'داعش' ووضع عراقي يساهم، بدعم من إيران، في إثارة الغرائز المذهبية.
التقط النظام السوري الرسالة الأميركية. كشف أنّه في مركب واحد مع واشنطن… ومع “داعش”، وذلك بعد إحراق التنظيم الإرهابي الطيار الأردني معاذ الكساسبة.
هناك، بكل بساطة، غياب للمنطق الأميركي في شأن كلّ ما له علاقة بالحرب على “داعش”. غياب المنطق الأميركي حمل النظام السوري على الإعلان بلسان وزير الخارجية وليد المعلّم أنّه ضد أي عمليات برّية تستهدف “داعش”. هذا يعني، في طبيعة الحال، وجود وحدة حال بين النظام السوري والإدارة الأميركية في ما يخصّ التنظيم الإرهابي. الجانبان مع إطالة الحرب على “داعش” إلى ما لا نهاية.
بعد إحراق الطيّار، يتصدّى الأردن وحده تقريبا بإمكاناته المحدودة لهذا التنظيم الإرهابي الذي دلّت تصرفاته على أن هناك من يريد الإساءة إلى الإسلام والمسلمين قبل أيّ شيء آخر.
في الواقع، لم يكن الأردن وحيدا تماما، ذلك أن دولة الإمارات العربية المتحدة سارعت إلى إرسال سرب من طائراتها إلى المملكة الأردنية الهاشمية. ونفّذت طائرات من السرب سلسلة طلعات ووجّهت ضربات إلى “داعش”. جاء ذلك لتأكيد أنّ هناك بين العرب من يسعى إلى أن تكون هناك استراتيجية متكاملة في شأن كلّ ما له علاقة بتخليص المنطقة من وباء “داعش” السنّية والدواعش الشيعية.
لعب التحالف الدولي دوره في التصدي لـ“داعش” والحد من تمدّده. نجح في ذلك نسبيا. ما لم ينجح فيه هو الخروج بأجندة حقيقية تؤدي إلى اقتلاعه من جذوره. لا وجود لرغبة في عمليات برّية للانتهاء منه. وهذا ما جعل النظام السوري يلتقي مع الإدارة الأميركية في إطالة الحرب على “داعش” خدمة لمصالحه.
اعتمدت الإدارة الأميركية، أقلّه إلى الآن، على توجيه ضربات إلى مواقع التنظيم الإرهابي من دون أخذ في الاعتبار للأسباب التي مكنته من إيجاد بيئة حاضنة له في سوريا والعراق. أكثر من ذلك، هناك رغبة أميركية، ظهرت من خلال تصرّفات المسؤولين في الإدارة، في اقتصار الدور العربي على ما تطلبه واشنطن وما يخدم توجّهاتها فقط. يبدو مطلوبا، أميركيا، من العرب توفير الغطاء لضربات جوّية أميركية من دون أي مشاركة فعلية في القرار السياسي.
بكلام أوضح، مطلوب من العرب أن يكونوا تابعين للولايات المتحدة، وليسوا شركاء لها. وهذا ظهر بوضوح عندما أسرت “داعش” الطيار الأردني. كشف ذلك، غياب ما يمكن وصفه بإجراءات يمكن أن توفرّها الإمكانات العسكرية الكبيرة التي تمتلكها الولايات المتحدة من أجل حماية الطيارين المشاركين في العمليات.
هناك باختصار رفض عربي للعب دور التابع المساهم في المماطلة التي لا تخدم سوى النظـام السوري مـن جهة، والميليشيات التابعة للأحزاب المذهبية العراقية التي تلعـب دورا مهما في انتعاش “داعش”. همّ هـذه الميليشيات يبـدو محصـورا في تطهيـر بعض المنـاطق العـراقية، على رأسهـا بغداد والمناطق المحيطة بها من أي وجود سنّي تحت غطـاء محـاربة “داعـش”.
يعبّر السرب الإماراتي الموجود في الأردن عن رفض لكلّ هذه التوجّهات الخاطئة. هذا السرب يؤكّد وجود قرار عربي مستقلّ يخدم المصلحة العربية التي لا تفرّق بين إرهاب وإرهاب، بغض النظر عن توجّه الإدارة الأميركية الحائرة التي تعتبر أنّ الملف النووي الإيراني يختزل كلّ قضايا المنطقة ومشاكلها.
ليس سرّا أنّه سبق للعرب الواعين أن رفضوا سيطرة الإخوان المسلمين على مصر خلافا لتوجّه إدارة باراك أوباما التي كانت تمتلك كمّية لا بأس بها من الأوهام في شأن دور الإخوان وما يمثّلونه في الدول العربية، خصوصا في مصر.
كان رأي إدارة أوباما، وربّما لا يزال، أنّ في استطاعة الإخوان لعب “دور إيجابي” على صعيد تعزيز الديمقراطية في كلّ دول المنطقة.
كان لا بدّ من ثورة مصر كي يتبيّن أن هذا ليس صحيحا، وأنّ المصريين يرفضون، بأكثريتهم الساحقة، رفضا قاطعا حكم الإخوان الذي لا يختلف في شيء عن حكم العسكر. بل إنّه أكثر تخلّفا بكثير من حكم العسكر. الفارق الوحيد بين الانقلابات العسكرية وحكم الإخوان يتمثّل في أنّ العسكر يستولون على الحكم عن طريق الانقلابات والبيان رقم واحد، في حين أنّ الإخوان يتسللون إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، ويرفضون، بعد ذلك، أيّ تداول سلمي عليها.
كان تأييد ثورة الشعب المصري بمثابة نقطة تحوّل على الصعيد العربي. كشف هذا التأييد الذي جاء على الرغم من الموقف الأميركي المؤيّد للإخوان أنّ هناك موقفا عربيا مستقلّا.
هذا الموقف قادر على مقاومة الضغوط الأميركية وتأكيد أنّ لا شيء يعلو على الأجندة العربية، مهما فعلت إدارة أوباما ومهما مارست من ضغوط.
ما نشهده، حاليا، هو متابعة لتكوين القرار العربي المستقلّ في ما يخصّ الحرب على “داعش”.ليس هناك من يستخفّ بالدور الأميركي والقدرات العسكرية للولايات المتحدة. على العكس من ذلك، سيكون هناك دور أميركي حاسم في هزيمة “داعش” ولكن لا يوجد هناك، بين العرب الواعين، من لديه أيّ وهم في شأن الحاجة إلى مقاربة شاملة للحرب على هذا التنظيم الإرهابي المتخلّف. مثل هذه المقـاربة تتطلّب أوّل مـا تتطلّب الاعتراف بأنّه جزء من المشكلة وليس كلّ المشكلة. لا يمكن عزل تمدّد التنظيم من دون معالجة الأساس. هذا الأساس متمثّل في وجود نظام سوري لا يقلّ خطورة عن “داعش” ووضع عراقي يساهم، بدعم من إيران طبعـا وتشجيع منها، في إثارة الغرائز المذهبية.
ليس أمام العرب الواعين، على رأسهم دولة الإمارات والأردن، سوى أخذ العلم بذلك وبأنّ لا مجال للاكتفاء بلعب دور الغطاء لسياسة أميركية ليس معروفا هل هي مع “داعش” أو ضدّه.
جاء إحراق الطيّار الأردني، لحسن الحظ أو لسوئه، ليكشف كم الحاجة كبيرة إلى أجندة عربية مستقلّة وإلى دور أميركي مختلف في حال كان مطلوبا اجتثاث “داعش” بدل الرهان على احتوائها خدمة لأهداف أخرى. من بين هذه الأهداف تفتيت سوريا، بدل السعي إلى لملمة الوضع فيها عن طريق حلّ سياسي يؤمّن أساسا قيام دولة مدنية بعيدا كلّ البعد عن النظام الطائفي القائم الذي لا مستقبل له.
ليس ما يخدم النظام الذي أخذ على عاتقه الانتهاء من الكيان السوري بشكله الحالي، سوى إطالة عمر “داعش”. ولذلك يقف وزير خارجية النظام، الذي لا حول له ولا قوّة، في وجه أي عملية برّية. هل “داعش” نقطة التقاء بين النظام السوري، الذي لم يعد سوى دمية إيرانية، والإدارة الأميركية؟ يبدو أن على العرب الواعين لخطورة “داعش” التفكير في هذا السؤال طويلا ومليّا.