ليس أصعب من مشاهدة الوضع اللبناني يتدهور. يمكن مشاهدة التدهور بالعين المجرّدة. في ضوء ما تشهده طرابلس ومنطقة الشمال، يبدو اعتداء نائب، من مخلّفات أيّام الوصاية السورية، على موظّفة بمثابة الجانب الفولكلوري من التدهور.
بعيدا عن الأحداث الخطيرة في الشمال وهي مرتبطة إلى حدّ كبير بما تسبب به “ حزب الله ” عندما قرّر إزالة الحدود بين لبنان وسوريا من منطلق مذهبي بحت، هناك مشاهد في بيروت تعني الكثير. فعند صخرة الروشة في بيروت يلتقي المارّ من هناك في يوم مشمس مجموعة من السياح، كانوا نحو عشرة. يقترب منهم، فيجد بينهم من يتكلّم العربية بلهجة عراقية، ومن يتكلّم الفارسية.
يلتقط السياح الصور لبعضهم بعضا، محاولين إظهار الصخرة التي هي رمز من رموز بيروت في الخلفية. لا يمكن الاعتراض بأي شكل على وجود هؤلاء السياح في بيروت، علما أنّه تبدو واضحة عليهم علامات البؤس. هؤلاء مرحب بهم في لبنان، على الرغم من أنّهم لن يساعدوا الاقتصاد اللبناني بشيء يذكر.
لكنّ الملفت في الأمر، هو ذلك الغياب شبه الكامل للسائح الخليجي في هذه الأيّام بالذات التي يمرّ فيها الاقتصاد بحال من الركود، جعلت الكآبة تعمّ بيروت باستثناء بعض الشوارع التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد، والتي يقصدها أبناء الطبقة الميسورة من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق. المشكلة أنّ هؤلاء ليسوا كلّ لبنان. كلّ ما يمكن قوله عنهم أنّهم جزء من المقاومة اللبنانية في وجه ثقافة الموت التي يوجد للأسف من يروّج لها من أجل فرضها على البلد. يسعى هذا البعض إلى ذلك باسم “المقاومة” أحيانا، و”الممانعة” في أحيان أخرى.. والدفاع عن النظام السوري الطائفي في كلّ الأحيان.
في خضمّ المأساة اللبنانية التي تتكشف للزائر بفرض تدبير سخيف يقضي بإجبار القادم إلى بيروت، عبر مطار رفيق الحريري الدولي، على تمرير حقائبه عبر أجهزة الكشف. ينتاب المرء شعور بأنّه غير مرحّب به في المدينة والبلد. هل في العالم مطار في مدينة كبيرة، أو حتى في المدن الصغيرة، يُجبر فيه القادم، بغض النظر عن عمره وقدراته الجسدية، على رفع حقائبه كي تمرّ عبر أجهزة الكشف.
معروف جيّدا، أن هذه الأجهزة موجودة أصلا منذ سنوات عدّة في مطار رفيق الحريري. يفترض، كما في كل المطارات في الدول المتحضّرة أن تمرّ الحقائب عبرها بعد إنزالها من الطائرة، وليس بعد أن يتسلمّها الراكب في طريق الخروج من المطار.
سبق لوزير الداخلية نهاد المشنوق أن تفقّد المطار واكتشف كيف أن أجهزة الكشف موجودة فيه منذ سنوات، وليس من يريد تشغيلها بعيد إنزال الحقائب. يبدو مطلوبا جعل المواطن والزائر يشعران بأنّه غير مرغوب فيهما في البلد لا أكثر.
من السياح الذين يلتقطون الصور عند صخرة الروشة، إلى الحال السائدة في مطار بيروت، حيث لا بدّ من الاعتراف بأن رجال الأمن العام يؤدون واجبهم بكلّ مهنية، يتبيّن أنّ هناك من يتآمر على لبنان من داخل لبنان. فدفع العرب، خصوصا أهل الخليج، إلى الابتعاد عن لبنان يستهدف بكلّ وضوح إفقار اللبنانيين ونشر البؤس في البلد. المطار الطارد للقادم إلى لبنان ليس سوى حلقة في مسلسل طويل مملّ. المطار ليس سوى جانب صغير من مأساة لبنان، التي تشمل، بين ما تشمل، التورّط إلى جانب النظام السوري في الحرب التي يشنّها على شعبه، وصولا إلى منع انتخاب رئيس للجمهورية.
لا أسرار في لبنان. الناس يعرفون بعضهم أكثر من اللزوم. لم يتكلّم نهاد المشنوق في الذكرى السنوية الثانية لاغتيال اللواء وسام الحسن من أجل ردّ بعض الدين الذي على لبنان لهذا الرجل فقط. تكلّم بالطريقة التي تكلّم بها من أجل وضع النقاط على الحروف وكي يقول “مش ماشي الحال”، وأنّ هناك ما لا يمكن السكوت عنه. نعم، “مش ماشي الحال” لأنّ هناك من هو مصمّم على تدمير لبنان حجرا حجرا، وبيتا بيتا، وحيا حيا، وبلدة بلدة، ومدينة مدينة، وطائفة طائفة، ومنطقة منطقة.
“مش ماشي الحال”، لأن هناك من لا يريد للبنان أن يبقى ويزدهر، وأن يكون لديه رئيس للجمهورية يمتلك حدّا أدنى من الجرأة لتسمية الأشياء بأسمائها لا أكثر ولا أقلّ.
هناك في المقابل من يرفض أن يكون رئيس الجمهورية اللبنانية مجرّد أداة لدى الأدوات، أي أداة عند الأداة الإيرانية المسماة “حزب الله”.
في ظلّ المشهد اللبناني المرعب، هناك، لحسن الحظّ، من يسعى إلى جعل اللبنانيين يتذكّرون أن خط الدفاع الأخير عن الدولة لم يسقط بعد. لذلك، يصرّ الرئيس سعد الحريري على دعم مؤسسة الجيش، وعلى أن الأولوية هي لانتخاب رئيس للجمهورية. انتخاب الرئيس بداية لاستعادة البلد بعض حيويته. إنّه اعتراف بالصيغة اللبنانية التي كرّسها اتفاق الطائف، بحسناته الكثيرة، وبعض سيئاته.
الواقع أن الطائف الذي صار عمره ربع قرن كانت لديه حسنات كثيرة، قبل أن ينقلب عليه النظام السوري. كانت بداية الانقلاب اغتيال الرئيس رينيه معوّض بغية إعطاء درس إلى جميع السياسيين اللبنانيين والفئات اللبنانية المختلفة. فحوى الدرس أنّ شيئا لن يتغيّر في لبنان، وأنّ الجيش السوري لا يمكن أن ينسحب يوما.
تبيّن بعد ربع قرن على الطائف أنّ الجهود مستمرّة لتحطيم لبنان. لم يكن اغتيال رفيق الحريري مجرّد حدث عابر استغلّه النظام الإيراني كي يحتكر الوصاية على الوطن الصغير، بعدما قبل في السابق أن يكون شريكا في هذه الوصاية مع النظام السوري. كان الاغتيال جزءا من انقلاب سياسي كبير بدأت تتضح معـالمه أكثر مع إزالة الحدود بين سوريـا ولبنان، واستحضار “داعش” وغير “داعش” إلى الداخل اللبناني.
ليس الوصول إلى تعطيل مجلس النوّاب ومنعه من اداء دوره الطبيعي المتمثل في انتخاب رئيس للجمهورية، سوى فصل من فصول الانقلاب الذي يتطلب منع العرب من المجيء إلى لبنان، وتحويل مطار رفيق الحريري إلى مطار متخلّف، فضلا عن إجبار السنّة والمسيحيين والدروز في لبنان على لعب دور “الصحوات” في العراق.
لا تزال هناك مقاومة في لبنان. المقاومة اللبنانية مقاومة للنظام الإيراني الذي يعتقد أن لبنان ليس سوى ورقة يستخدمها ساعة يشاء، مع من يشاء، في الظروف التي يشاء.
ليس تذكير سعد الحريري بالأولويات، مع الإصرار على الوقوف مع الجيش في الحرب التي يخوضها في الشمال، سوى تذكير بالمقاومة التي تؤمن بأن الطائف يعني المشاركة الحقيقية بين المسيحيين والمسلمين ورفض السلاح غير الشرعي بكل أشكاله، أكان سلاح “حزب الله” أو سلاح “داعش” و”النصرة”.
الطائف لا يعني القبول بالوصاية الإيرانية بديلا من الوصاية السورية، والوصاية المشتركة السوريةـ الإيرانية.