عندما يصل عبدالملك الحوثي زعيم “أنصار الله” في اليمن، عبر الناطق باسمه، إلى القول عن الرئيس الانتقالي عبدربّه منصور هادي بأنّه “يسعى إلى المغالطة والخداع”، فهذا معناه أن الحوثيين استنفدوا (أنصار الله) ورقة عبدربّه منصور هادي. هذا على الأقلّ ما توحي به التصرّفات الأخيرة لهؤلاء، بدءا بالرسالة التي صدرت عن الناطق باسمهم والتي يرفض فيها مسودة الدستور الجديد والأقاليم الستة.
تكشف هذه التصرّفات، التي شملت خطف مدير مكتب رئيس الجمهورية أحمد عوض بن مبارك، والحديث عن “المشاريع التآمرية” للرئيس، وعن “تسويف وكذب وخداع” وتوجيه اتهامات إليه بـ”تسليح القاعدة في مأرب”، وجود رغبة واضحة في الانتهاء عمليا، وإن لم يكن رسميا، من الرئيس الانتقالي. لم يتردّد الحوثي حتى في وصف المحيطين بعبدربّه منصور بأنّهم “مجموعة من عملاء الخارج”.
نرى اليوم الرئيس الانتقالي في دار الرئاسة بصنعاء، لكن سلطته لا تتجاوز أسوار الدار التي كان علي عبدالله صالح يدير شؤون اليمن منها. متى ستنتفي الحاجة إلى الرئيس الانتقالي؟ يبدو أن المسألة مسألة وقت، خصوصا في ضوء الحملة الشرسة التي يتعرّض لها وبعد استقالة المستشار الرئاسي صالح الصماد الذي كان يمثّل “أنصار الله” لدى عبد ربّه منصور.
يقضم الحوثيون السلطة بهدوء وتؤدة أحيانا، وبسرعة في أحيان أخرى، وفق خطة مرسومة تأخذ في الاعتبار العقبات التي يواجهونها في محاولتهم وضع اليد على البلد كلّه. يسعون إلى التقدّم عسكريا في كلّ الاتجاهات غير آبهين بأنّ خطواتهم، والخطاب السياسي الذي يرافقها، تثير حساسيات ذات طابع مذهبي سترتدّ عليهم عاجلا أم آجلا. ولكن ما العمل عندما تكون هناك أجندة إيرانية تفرض في المرحلة الراهنة على طهران عرض عضلاتها في كلّ مكان تمتلك فيه أوراقا؟ من الصعب فصل ما يقوم به “أنصار الله” في اليمن من تصعيد عن ردّ الفعل الإيراني على هبوط أسعار النفط إلى درجة بات النظام في طهران مهدّدا؟
هاهم يخطفون الآن مدير مكتب رئيس الجمهورية الانتقالي، بعدما وضعوا في الماضي القريب فيتو على توليه رئاسة الحكومة. يبدو همّهم محصورا في تأكيد أنّ ليس في الإمكان تمرير الدستور الجديد الذي كان بن مبارك يحمل مسودّته إلى اجتماع يحضره أعضاء في لجنة مهمتها مراقبة تنفيذ مخرجات الحوار اليمني، التي من بينها مسودّة الدستور الجديد.
من الواضح أنّ لدى الحوثيين خطة بديلة في حال تعذّر عليهم حكم اليمن كلّه. الدليل على ذلك، تركيزهم في المرحلة الراهنة على الإمساك بكلّ مراكز القرار في صنعاء، ووضع اليد على منطقة مأرب الغنية بالنفط بعد عجزهم عن التقدّم إلى داخل تعز، عاصمة الوسط الشافعي.
لن تكون معركة مأرب سهلة على “أنصار الله”، خصوصا أن القبائل في تلك المنطقة في غاية الشراسة، إضافة إلى أن عليهم التقدّم في مناطق مكشوفة. لكنّ المرجّح أنّهم سيتمكنون من تحقيق اختراق ما في تلك المنطقة على الرغم من الخسائر الكبيرة التي يمكن أن تلحق بهم.
يعكس ما يشهده اليمن من أحداث متسارعة مدى التضايق الإيراني من هبوط أسعار النفط. لذلك نرى منفذي الأجندة الإيرانية يضغطون في كلّ مكان يستطيعون فيه الضغط. ليس كلام السيد حسن نصر الله الأمين العام لـ”حزب الله” في لبنان بعيدا عن هذا الجوّ. صعّد نصر الله مع البحرين، وبالتالي مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، إلى أبعد حدود. سبقه إلى ذلك الحوثي نفسه في خطبة عيد المولد النبوي. سعى نصر الله بعد ذلك إلى توجيه تهديدات إلى إسرائيل.
إلى أي حدّ يمكن أن يذهب “أنصار الله” في تصعيدهم في اليمن؟ هل يريدون تفكيك السلطة في اليمن، أم تفكيك اليمن؟
ما يحصل على الأرض تفكيك لليمن يأخذ بدربه السلطة القائمة أو ما بقي منها. هذه السلطة لم تعد قادرة على إقرار مسودّة الدستور الجديد الذي توصّلت إليه لجنة الحوار الوطني، والذي يدعو إلى قيام “دولة اتحادية” ذات ستة أقاليم. اعترض الحوثيون على الأقاليم الستة. كان الأجدر بالرئيس الانتقالي إدراك أنّهم قادرون على تنفيذ تهديداتهم التي تشمل تطبيق “اتفاق السلم والشراكة” الذي فرضوه بعد سيطرتهم على صنعاء في الـ21 من أيلول الماضي. يريدون تطبيق الاتفاق ولكن بالطريقة التي يعتبرونها مناسبة لهم لا أكثر ولا أقلّ!
كذلك، كان مفترضا بالرئيس الانتقالي الإعلان، رسميا، أنّه لم يعد قادرا على تغطية تصرّفات الحوثيين الذي نشروا “اللجان الشعبية” في كلّ أنحاء العاصمة وحولها وصاروا موجودين في كلّ وزارة أو مؤسسة رسمية يراقبون ما يجري فيها. صار “أنصار الله” الطرف الآمر والناهي في صنعاء ومناطق أخرى. صاروا السلطة الحقيقية في حين لا دور للرئيس الانتقالي سوى إعطاء صبغة شرعية لتصرّفاتهم.
نفّذ الحوثيون انقلابا على مراحل. هناك استعجال لديهم الآن. هذا الاستعجال تفرضه الأجندة الإيرانية ولا شيء آخر. ما النتائج التي يمكن أن تترتّب على ذلك؟ الأكيد أنّ اللعبة التي يمارسها “أنصار الله” في غاية الخطورة، لا لشيء سوى لأنّ ليس لديهم أيّ مشروع يواجهون من خلاله مشاكل البلد. مشاكل اليمن لا تحصى خصوصا تلك المرتبطة بالفقر والتخلف والنمو السكاني وانعدام الموارد الطبيعية والتطرّف الديني الذي بدأ يأخذ شكلا جديدا في ضوء المواجهة ذات الطابع المذهبي بين “أنصار الله” من جهة، والمناطق ذات الأكثرية الشافعية من جهة أخرى… هذا دون الحديث عن مشاكل الجنوب والصراعات فيه.
هل اتخذت إيران قرارا بالسيطرة على قسم من اليمن في غياب القدرة على بسط نفوذها عليه كلّه؟ الجواب أنّ هذا الأمر يمكن أن يكون واردا في حال أصرّ “أنصار الله” على تعرية الرئيس الانتقالي كما فعلوا عندما خطفوا مدير مكتبه وأعلنوا صراحة مسؤوليتهم عن ذلك. قد يطلقون بن مبارك، كما قد يحتفظون به لفترة. لكنّ المهمّ في ذلك أن الخطف حصل وأنّ الرئاسة باتت مكشوفة.
يبدو أن هناك قرارا لدى الحوثيين بالتخلي عن ورقة التين التي كان يوفّرها عبد ربّه منصور. لم تعد هناك حاجة إليه، على الرغم من أنّه يمثّل، شئنا أم أبينا، شرعية ما.
السؤال الآن ماذا بعد هذه الخطوة. هل دولة في شمال اليمن، عاصمتها صنعاء… تقف حدودها عند تعز وفي مناطق على مشارف مأرب قابلة للحياة؟ هل يمكن لمثل هذه الدولة خدمة إيران في شيء؟ هل تفتيت اليمن يمكن أن يخدم هدفا ما، باستثناء تمكن إيران من إيجاد موطئ قدم في أرض يمنية لديها حدود طويلة مع المملكة السعودية؟
الواضح أنّ إيران على عجلة من أمرها هذه الأيّام. الواضح، أيضا، أنّها تتصرف تحت ضغط قوي عائد إلى تدهور أسعار النفط. ما هو أكثر وضوحا أنّ اليمن يمكن أن يدفع ثمنا غاليا لهذا الاستعجال الإيراني الذي لا أفق سياسيا له… هناك بكل بساطة تفكيك في اليمن نتيجة تفكيك للسلطة، أو ما بقي منها، فيه.