المملكة والصراع على تقسيم المنطقة وتقاسمها

المملكة والصراع على تقسيم المنطقة وتقاسمها

المملكة والصراع على تقسيم المنطقة وتقاسمها

 لبنان اليوم -

المملكة والصراع على تقسيم المنطقة وتقاسمها

جورج سمعان


 المملكة العربية السعودية إلى صدارة المشهد. حدود التغيير باتت معروفة: رحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وخلفه ولي عهده خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز. هذه هي حدود التغيير في خريطة إقليمية تتغير وتتبدل منذ أربع سنوات. دول تتهاوى فيها نظم وجيوش ومؤسسات حكم. ومشاريع ووحدات وطنية تتصدع أمام زحف الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية والجهوية ومشاريع التقسيم... النظام العربي يتداعى ومعه جامعته، ويكاد لا يبقى منهما شيء. وصراعات خارجية للسيطرة على الإقليم وتقاسمه. فيما يواجه أهله انتشار حركات التفكير والإرهاب التي تنخر مجتمعاتهم وتحاول جرهم إلى صدام مع الحضارات الأخرى، خصوصاً الغربية. هذه أبرز ملامح صورة الشرق هذه الأيام. بل هذه صورته منذ عشر سنوات ونيف. في ظلها وتحت وطأتها حكم الملك الراحل. وفي ظلها وتحت وطأتها سيواصل خليفته مسيرة «النهج القويم»، كما قال في كلمة النعي. انتقال الحكم مرّ بسلام وهدوء. كأن ما حدث إجراء طبيعي تعودته المملكة التي توقع لها كثيرون أن تهتز أركانها. أن تهتز على وقع خلافات الأشقاء في التنافس على السلطة بعد مرض الملك فهد ورحيله. وأن تهتز على وقع الزلزال الدولي الذي أحدثته «غزوتا نيويورك وواشنطن». وأن تهتز في خضم العاصفة التي ضربت العالم العربي مطلع هذا العقد وأودت أو تكاد بأربع دول، من ليبيا إلى اليمن والعراق فسورية، وتهدد دولاً أخرى وتهز استقرارها... لكن ذلك لم يحدث.

لم تكن المملكة بمنأى عن تحديات ومخاطر مصيرية في السنوات الخمسين الماضية. لكنها صمدت واجتازت تجارب صعبة. الملك فيصل قاد المملكة في ظل احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي واقتسامهما الكرة الأرضية مراكز نفوذ ومصالح ومواقع. وفي ظل صراع مرير مع جمال عبد الناصر الذي انقسم العالم العربي حوله فسطاطين. وعايش حربي 1967 و1973 ونتائجهما وتداعياتهما. ولم تكن التحديات التي واجهت حكم الملك خالد أقل خطورة وشأناً. واجه تقدم الجيش السوفياتي نحو المياه الدافئة مع دخوله كابول. وواجه قيام «الثورة الإسلامية» ومناداتها بتصدير الثورة. وعرف خليفته الملك فهد كيف يعبر بالسفينة. دفع مع شركائه في الخليج نحو قيام مجلس التعاون الذي لم يتوانَ عن دعم نظام صدام حسين في حربه مع إيران. ثم كان لموقفه الموحد أثر كبير في قيام حشد عسكري دولي واسع لتحرير الكويت من الغزو العراقي.

هذه التحديات التاريخية التي واجهتها المملكة بعد غياب المؤسس بقيت، على خطورتها، دون الأحداث التي عاشتها في السنوات الأخيرة. وهي أحداث عانى منها العالم العربي أيضاً. فالحرب التي أعلنها تنظيم «القاعدة» مطلع الألفية على الولايات المتحدة وأوروبا عموماً تحولت عملياً حملات ضغط وتهويل وانتقادات وتشويه على الدول العربية والإسلامية وفي مقدمها السعودية. كان مطلوباً جر هذه الدول إلى صراع مع «الآخرين». وبالفعل اضطربت العلاقة بين الغرب والشرق. وأبعد من ذلك خلف التكفيريون هزة واسعة في مجتمعات المنطقة. دفعوا مكوناتها إلى مواجهات لم تتوقف بين قوى الإسلام السياسي والتكفيريين من جهة وقوى وسطية ومؤسسات دينية من جهة أخرى. وتصدرت المملكة الحملة لمواجهة قوى التطرف، ولا تزال. والتفتت إلى الداخل وخاضت تجربة إصلاحية واسعة على يد الملك الراحل، ربما كانت هي الأكبر في تاريخها. وواكبتها نهضة صناعية واقتصادية وتعليمية واسعة. ونجحت بضرب «الفئة الضالة». وتحولت شريكاً لا غنى عنه في الحرب على الإرهاب.

وأهّلت عائدات النفط والاقتصاد المتنامي المملكة لتحتل كرسياً في نادي مجموعة العشرين التي تشرف على إدارة الاقتصاد الدولي. لكن عواصف «الربيع العربي» التي هبت من الشمال الأفريقي إلى المشرق العربي وجنوب شبه الجزيرة كانت أكبر التحديات في وجه أهل الخليج عموماً والسعوديين خصوصاً. كان من نتائج هذا «الربيع» تداعي ما بقي من النظام العربي، بعد سقوط نظام صدام حسين وإحكام إيران قبضتها على القرار في بغداد عبر شبكة تحالفاتها مع القوى الشيعية التي احتضنت معظمها أيام حكم البعث. وانهارت مع تداعي عدد من الأنظمة العربية القاعدة الثلاثية التي أدارت وقادت الجامعة لسنوات. وقعت مصر في أيدي «الإخوان» على وقع اضطرابات واسعة. وتبعتها سورية التي تحولت سريعاً إلى مسرح لحروب أهلية تكاد لا تبقي شيئاً من البشر والحجر. وانساق اليمن في «الموجة». فيما بدأ الكيان الخليجي يهتز على وقع تباينات في سياسات بعض دوله حيال ما تشهده المنطقة.

اضطراب الإقليم زاد في انكشاف المملكة. وتقدمت إيران وتركيا في صراع تنافس على اقتسام أهله ودوله. توسلت الأولى القوى الشيعية في الدول العربية. وقدمت الثانية نفسها نموذجاً للاسلام الديموقراطي وراعية لجماعات «الإخوان». فيما عجلت الولايات المتحدة الخطى لنقل ثقل اهتمامها الاستراتيجي إلى المحيط الهادئ سعياً إلى احتواء التمدد الصيني. تراجع دورها ضابطَ إيقاعٍ يمسك بخريطة الأمن في المنطقة. وأطلقت حملة ديبلوماسية حيال طهران لتسوية الملف النووي. وهذا ما شجع الجمهورية الإسلامية على مواصلة السعي إلى ملء الفراغ الذي سيخلفه انكفاء القوة العظمى عن المنطقة. بدا سهلاً عليها أن تواصل «زحفها» في الإقليم في ظل قرار أميركا بالانسحاب منه، وعــــدم رغبتها في خوض حروب جديدة. وجهدت بين فترة وأخرى لتقديم نفسها قوة عظمى لا غنى عنها. كأنها تريد التفاوض مع الغرب على المنطقة العربية، مسلحة بمواقع انتشارها التي تتغنى بها من بغداد إلى دمشق وبيروت وصـــنعاء، بديلاً من التفاوض على ما يــــجب أن تقدم من تنازلات في البرنامج النــــووي. في ظل الاستقطاب المذهبي الذي ينفجر حـــروباً هنا وهناك حاولت دول الخليج أن تتوكأ على تركيا الدولة السنية الكبرى في المنطقة. لكن المحاولة اصطدمت باختلاف الحسابات. إلى كل هذه التطورات خرج «داعش» من القمقم في بلاد الشام. وزحف «أنصار الله» وأسقطوا المبادرة الخليجية ومعها أركان الحكم في المرحلة الانتقالية في اليمن الذي يقترب من التفكك محافظات كأنه يستعيد زمن السلطنات أيام الانتداب البريطاني في الجنوب.

المواجهة التي خاضتها المملكة بقيادة الملك الراحل لا يمكن أن تتوقف مع خليفته. اختارت رفع التحدي بدل الاستسلام للأمر الواقع. أعاد الملك عبدالله تدعيم ركائز البنيان الخليجي. واحتضن حركة التغيير المصرية في «ثورة 30 يونيو» التي أطاحت حكم «الإخوان». ووطد العلاقة مع الأردن والمغرب. وأدرك أن سلاح المال أحد أمضى الأسلحة في حروب العصر. فإذا كان للآخرين أن يستخدموا بلا تردد كل أنواع الأسلحة للزحف على المنطقة وتقاسمها، فإن المملكة ترد بما لديها من أسلحة أثبتت فاعليتها. استخدمت كتلتها المالية الكبيرة في تقديم دعم سخي لحماية مصر ودول عربية أخرى من الانجراف في موجة الفوضى التي فككت حتى الآن بضع دول وتهدد بالمزيد. وتدير اليوم حرب أسعار النفط، على رغم كل التحذيرات التي يطلقها المتضررون من انهيار الأسعار. لن تتنازل عن حصتها في السوق. ولن تسكت عن المنافسين في سوق النفط الصخري. ولن تندفع لانقاذ المتألمين من إيران إلى روسيا مهما بلغ سيل الاتهامات. اللجوء إلى أوراق القوة في الصراع على السلطة والنفوذ متاح لكل المتصارعين. ولا يعقل أن يكون شرعياً لطرف من دون آخر. هذا من دون الحديث عن كمّ من المبادرات التي قادها الملك الراحل لترتيب البيت العربي ودعم القضية الفلسطينية، وحوار الأديان ومواجهة التطرف... ويكفي النظر إلى صورة القادة والزعماء المتوافدين إلى الرياض لتقديم العزاء بالملك الراحل شهادة على الموقع الذي تحتله المملكة ليس في السياسة الإقليمية فحسب بل في السياسة الدولة. لم تعد شاهداً عاجزاً على ما يحدث في المنطقة. رسخت موقعها طرفاً لا يمكن تجاهله في رسم صورة النظام العربي الجديد. هي حاضرة في صلب الحرب على الإرهاب. حاضرة في صلب القرارات الاقتصادية والنفطية الدولية، والقرارات المالية العالمية.

يرث الملك سلمان تركة كبيرة وحملاً ثقيلاً. أمام المملكة الكثير لدعم ما تحقق. اجتازت خطوات واسعة في مسيرة طويلة. عليها أن تدفع أولاً دول مجلس التعاون نحو استراتيجية واضحة الأهداف والوسائل تنطلق من توحيد القراءات والرؤية. ومن الوحدة الخليجية المتماسكة يمكن أن تواصل الرياض سياسة دعم مصر ومساعدتها على استعادة دورها الريادي في المنطقة لتعود ثقلاً ديموغرافياً وعسكرياً في موازين القوى الإقليمية. من هاتين القاعدتين يمكن القيادة الجديدة أن تستعيد المبادرة والانخراط مجدداً في معالجة الأزمتين اليمنية والسورية، ومواصلة الحرب على الإرهاب. أما سياسة الإصلاح الواسع التي أطلقها الملك عبدالله فلا يمكن أن تتوقف أو أن تعود إلى الوراء مع خليفته الذي يكفي النظر إلى ما فعله في إمارة الرياض ليظهر حجم التحديث والتطوير في كل زاوية من زوايا العاصمة. ويكفي النظر إلى الخريطة العربية التي لم يبقَ فيها غير المملكة أهلاً لقيادة مشروع عربي جديد. فهل تنجح في وقف الحرائق في قلب العالم العربي وأطرافه؟

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المملكة والصراع على تقسيم المنطقة وتقاسمها المملكة والصراع على تقسيم المنطقة وتقاسمها



GMT 17:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا تفعلون في هذي الديار؟

GMT 16:02 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 16:00 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 15:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الفاتيكان... ومرثية غزة الجريحة

GMT 15:52 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لحوم العلماء ومواعظهم!

GMT 15:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

وجع فى رأس إسرائيل

GMT 15:47 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حكم «الجنائية» وتوابعه

GMT 15:44 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

«الثروة» المنسية ؟!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon