استيقظ عادل عبد المهدي باكراً. ليس غريباً أن يجافي النومُ حاكمَ العراق. ثم إنَّ النصف الثاني من السبعينات ليس الموسم الملائم لنوم طويل هانئ. يخالجه شعور بأنَّه سيئ الحظ. انتظر موعده مع رئاسة الوزراء فجاءه في توقيت شائك. ترك له أسلافه إرثاً من المشكلات يكفي لإطاحة أكثر من حكومة. ومع اشتداد التجاذب بين واشنطن وطهران، ترسَّخت قناعته أنه رئيس وزراء على خط الزلازل. لقد التقت مصائب الداخل بمصائب الخارج لتعبد الطريق نحو الكارثة.
يعيد قراءة بيان وزارة الدفاع الممدد على مكتبه. نفت الوزارة أن تكون استوردت قنابل الغاز التي تهشم رؤوس المتظاهرين وتقتلهم، وألقت المسؤولية على «طرف ثالث». ما أصعب أن يقرأ رئيس الوزراء بياناً من هذا النوع أصدره وزير الدفاع في حكومته. لا يستطيع عبد المهدي الاستقالة من مصير الشبان الذين قتلوا بهذا النوع من القنابل المسيلة للدموع. ثم إنَّ البيان نفسه يطرح أسئلة محرجة: من استورد هذه القنابل القاتلة؟ ومن استخدمها؟ ومن هو هذا «الطرف الثالث» الذي تخشى الحكومة تسميته كي لا نقول اعتقاله؟
حظه سيئ فعلاً. لو انطلقت الاحتجاجات الحالية من الأنبار أو ركام الموصل لكانَ أمكنَ إلصاقُها بـ«داعش» و«التكفيريين». لكنها تدور في النجف وكربلاء والبصرة والديوانية، أي في معاقل شيعية، فضلاً عن بغداد. يطالبه المتظاهرون باجتثاث الفساد واستعادة الأموال المنهوبة. يكلفونه مهمة انتحارية.
أمرٌ آخر يقلقه. أحرق المتظاهرون في المدن الشيعية صوراً لرموز إيرانية. ندَّدوا أيضاً بتدفق البضائع الإيرانية لمنافسة البضائع العراقية. يتساءل عبد المهدي بحذر في مكتبه: هل ذهبت إيران أبعدَ مما يحتمل في إدارة الشأن العراقي؟ وهل صحيح ما يهمس به البعض من أنَّ عليه «أن يختار بين طريق السيستاني وطريق سليماني»؟ ما أصعبَ أنْ يختار!
هل شاخ نظام ما بعد صدام باكراً؟ يبحث عن إجابات. تستوقفه هذه القطيعة الكاملة مع هؤلاء الشبان الذين لا يبخلون بأرواحهم، رغم تحذيرات السلطة وتهديدات «الحشد» وممارسات «الطرف الثالث». يغمض عينيه، ويقول لنفسه: لا نستطيع إنكار أنَّهم أبناؤنا.
في بيروت، استيقظ ميشال عون باكراً. يكاد يشعر أنه سيئ الحظ. انتظر الرئاسة طويلاً لكنَّها لم تفتح له ذراعيها إلا متأخرة وفي توقيت شائك. استلزمت تحالفات مكلفة ومصالحات باهظة. لم يستطع ترويض كل هذه التناقضات. وحين التقت مصائب الداخل بمصائب التجاذب الأميركي - الإيراني هبَّت رائحة الكارثة.
لم يتوقع العاصفة. سلوك بعض المقيمين تحت جناحيه ينذر بتحويلها إعصاراً. الرئيس الذي اعتقد دائماً أنه المنقذ يتفرَّج الآن على الانحدار المتسارع نحو الإفلاس. من الظلم تحميله وحده مسؤولية هذا الانهيار الواسع، لكنه الرئيس ولا يستطيع التنصل من تحمل جزء كبير منها. سينسى الناس أسماء كثيرين وسيحفظون أنَّ الكارثة حلَّت في عهده.
هل انقطع الاتصال تماماً بين الرئيس الثمانيني والفتيان الذين يحتشدون في الساحات؟ جيل يغرف من قاموس آخر. لا يعنيهم قوله «يا شعب لبنان العظيم». لا يتوقَّفون عند معارك سوق الغرب ومدافع سوق الغرب. لا يريدون قراءة قصة خروجه إلى المنفى وملابسات عودته. جيل آخر مهجوس بالمستقبل ولا يعنيه الماضي.
عاصفة شابة وعابرة للطوائف. لا يصدق أحد أنَّها من صناعة فيلتمان أو بتحريض من جنبلاط أو جعجع. إنَّها عاصفة الفقر والبطالة والأفق المسدود والنقمة على الفساد والمشاركة فيه أو السكوت عنه. لا جدوى من نعتهم بالأشرار والمخربين، فهؤلاء هم في النهاية أبناؤنا.
في طهران، استيقظ حسن روحاني باكراً. تقول التقارير إنَّ الهدوء عاد إلى أكثر من مائة مدينة شملتها موجة الاحتجاجات. أخمدت العاصفة. والنظام ليس مهدداً. يبتسم. لا يعرف هؤلاء الفتيان الفارق الكبير بين النظام الإيراني والأنظمة التي سقطت على وقع قرع الطناجر والهتافات في الساحات. يقول في نفسه: إذا كان المرشد لم يسمح بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق، فهل يسمح بسقوط النظام في طهران؟
ثمة أسئلة لا يستطيع طرحها على الرأي العام أو مصارحة المرشد بها. النظام ليس مهدداً، لكن لماذا يحتاج بعد أربعين عاماً من قيامه إلى هذه الوجبات من الجثث لإسكات الناس كلما فاض غضبهم وتدفقوا في الشوارع؟ هل شاختِ الثورة فعلاً؟ ولماذا يغرف هؤلاء الشبان من قاموس لا يشبه قاموسها ويكاد يكون نقيضه؟ جيل لم تعد تستفزه عبارة «الموت لأميركا» أو إعادة نشر صور الأميركيين أسرى في سفارة بلادهم في طهران؟ جيل لا يبدو معنياً بهذا الاشتباك الطويل مع «الشيطان الأكبر».
النظام ليس مهدداً لكن غربته عن الأجيال الجديدة تتعمق وكأنه يهرب إلى الأمام. جيل يتحدَّث عن الفقر والفساد ومعدلات البطالة وحقوق الإنسان والبيئة والحريات والانخراط في ثورات العالم التكنولوجية والنوافذ المفتوحة في القرية الكونية. جيل لا يعترف بالخطوط الحمر التي اقتنع بها الآباء أو استسلموا لها. جيل يقرأ في كتب أخرى. يصدق رسائل هاتفه الذكي أكثرَ مما يصدق الناصحين والمهددين. يعرف روحاني أنَّ المرشد حمل على «الأشرار» الذين ركبوا موجة الاحتجاجات. لكنَّه يقول في سره إن هؤلاء الأشرار هم أبناؤنا.
جيل جديد هنا وهناك وهنالك. شبان وشابات شحذت الهواتف الذكية ووسائل الاتصال أحلامهم ومخيلاتهم ومطالبهم وشغفهم. لا يحبُّون كتبنا. ولا يقرون مخاوفنا. ولا يحترمون الخطوط الحمر ولا يخافون الاستبداد ولا يتقبلون العيش في دولة فاسدة متصدعة. لكن هؤلاء «الأشرار» هم أبناؤنا.