بقلم:غسان شربل
نبحر الآن في سنة جديدة. نشعر منذ اللحظة الأولى بضرورة ربط الأحزمة. القصة أكبر من مطبات هوائية وأخطر. تركت السنة التي فرت في جسد السنة التي انطلقت حقولاً من المتفجرات، وجروحاً ملتهبة، تحتم اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة.
على طاولة جو بايدن حزمة أسئلة مقلقة: إلى متى تستطيع بلاده ضخ الأسلحة والمليارات في عروق أوكرانيا التي خسرت حتى الآن بعض أرضها وكثيراً من بنيتها التحتية؟ هل يستطيع فعلاً منع فلاديمير بوتين من الانتصار من دون إذلاله ودفعه إلى توسيع الحرب، أو إلى خيارات شمشونية؟ هل يستطيع الضغط على فولوديمير زيلينسكي لقبول سلام مهين، يتضمن التنازل عن المقاطعات التي استولى عليها الجيش الروسي؟ وهل تتبنى أوروبا مثل هذا الخيار؟ وهل يمكن مكافأة بوتين في أوكرانيا من دون القبول بمكافأة شي جينبينغ في تايوان؟ وماذا يبقى من أميركا إذا انحنت هنا وهناك، وسلمت بشيء من نجاح الانقلاب الذي أطلقه بوتين عبر الحرب الأوكرانية؟ طبعاً من دون أن ننسى الانقسام الداخلي، ونتائج الانتخابات النصفية، وبدء السباق في نهاية العام على الانتخابات الرئاسية المقبلة.
يعرف بايدن أن بوتين يتصرَّف وكأنه جاء في مهمة وعليه تنفيذها، بغض النظر عن التكاليف. مهمة الثأر من النموذج الغربي الذي نجح في هدم جدار برلين من دون قطرة دم. النموذج الذي نجح في تفكيك الاتحاد السوفياتي من دون إطلاق رصاصة. النموذج الذي احتضن الثورات الملونة ودفع بيادق «الأطلسي» باتجاه الحدود الروسية. النموذج الذي يعتبر الدولار أكبر جنرالاته وأعنفهم.
في الكرملين يتمشى بوتين في مكتبه الشاسع. القرارات الصعبة باتت خبزاً يومياً. ذهب في الحرب إلى حد استحالة التراجع. يتذكر أن إعادة الجيوش إلى الخرائط أصعب من إخراجها منها. يتوقف أمام المرآة. إنه رجل بخيار وحيد. الانتصار أو الانتصار. كل خيار آخر انتحاري. يعرف أنها ليست «عملية عسكرية خاصة». يعرف أنها الحرب الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية. يبتسم. كان جده بطرس الأكبر محظوظاً حين وسَّع الخريطة في غياب الإعلام الغربي المسموم. كان ستالين محظوظاً حين أنجز حروبه في غياب أشهر جاسوس في التاريخ، وهو الهاتف الذكي. يدرك أن الغرب نسي ابتساماته وكياسته. صارت صورته هناك هي صورة بوتين الأوكراني الذي توزع ضرباته العتمة على أوكرانيا، وتنجب أمواجاً من اللاجئين. يرجع إلى مقعده. عتبه كبير على جنرالاته؛ حيث سيضطر إلى تلطيخ صورته لمحو انتكاساتهم. القرار هو الانتصار.
أوروبا التي كشفت الحرب الأوكرانية هشاشتها وتبعيتها للغاز الروسي، تجد نفسها أمام أسئلة موجعة وقرارات صعبة. ماذا يبقى من التقدم الأوروبي إذا انقطع التيار الكهربائي في فرنسا وألمانيا وغيرها؟ ماذا يبقى من استقرارها إذا مات مُسنُّون أو أطفال من الصقيع؟ على طاولة ماكرون، كما على طاولة شولتس وغيرهما، أسئلة غير مسبوقة. هل تستطيع أوروبا دفع ثمن إصرار زيلينسكي على «القتال حتى النصر»؟ هل تستطيع الانحناء والموافقة على تغيير الحدود بالقوة لاسترضاء القيصر؟ هل تستطيع أوروبا البقاء موحدة وسط موجة التضخم والإضرابات وارتفاع الأسعار وانخفاض الطمأنينة؟
طاولة شي جينبينغ ليست بمنأى عن القرارات الصعبة. هزيمة بوتين ترجئ حلم استعادة تايوان. انتصار بوتين قد يغرق العالم واقتصاده في عواصف يصعب كبحها. نجح الزعيم الصيني في السير على الحبل المشدود في السنة التي هربت؛ لكن ماذا عن السنة الجديدة؟ يشتهي بالتأكيد خلع الزعامة الأميركية المتفردة. يحلم أيضاً بإنهاء سطوة الدولار. لكن مصالح بلاده مع أميركا وأوروبا هائلة، ولا يعوضها سقوط روسيا الجريحة في الحضن الصيني. حساباته صعبة ودقيقة. عليه الالتفات إلى العملاق الهندي المجاور. وإلى اليابان التي اكتشفت هشاشة الاقتصاد بلا أنياب تحميه، تماماً كما اكتشفت ألمانيا.
في الشرق الأوسط الكئيب تحتاج دول كثيرة، بينها الدول العربية، إلى اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة في ضوء الزلزال الأوكراني، وحال الترقب بعد عودة بنيامين نتنياهو وتركيبة حكومته.
واضح أن إيران انتقلت من سنة إلى أخرى على وقع الاحتجاجات، على الرغم من القمع وعمليات الإعدام. جديد الأزمة ارتفاع أصوات خجولة من داخل النظام نفسه، تقول إن الاستمرار في فرض النموذج الصارم يشكل تهديداً للاستقرار. يعرف بعض أبناء الثورة أن اختراق خرائط الآخرين لم يحصن الخريطة الإيرانية ضد رياح العصر ورياح التغيير. يعرفون أن القلاع تسقط من الداخل لا بفعل رياح الخارج. إنتاج المُسيَّرات وتسويقها لا يلغي الحاجة إلى التفاهم مع الذين وُلدوا في ظل الثورة، وقرأوا العالم عبر هواتفهم لا عبر الإعلام الرسمي.
تركيا التي اتخذ رئيسها رجب طيب إردوغان قرارات شائكة في السنوات الماضية، تجد نفسها أمام إلحاح قرارات من قماشة أخرى. واضح أن إردوغان الذي استهوته رقصة «التانغو» مع بوتين من دون خلع القبعة الأطلسية تماماً، مستعد لقرارات كثيرة تمدد إقامته في القصر. سنة انتخابات وقرارات. قدَّم إردوغان هدايا عدة لبوتين، ورد عليه سيد الكرملين بهدية سورية. أغلب الظن أن إردوغان سيجلس في السنة الجديدة مع بشار الأسد، لطي الصفحة التي فتح خلالها حدود بلاده أمام جميع الراغبين في إطاحة الرئيس السوري، المدعو هو أيضاً إلى اتخاذ قرارات صعبة.
لا يشعر زائر الرياض في الأسبوع الأخير من السنة التي مضت بأنها مدعوة إلى اتخاذ قرارات صعبة. ربما لأنها اتخذت قبل سنوات هذا النوع من القرارات حين تبنَّت «رؤية 2030». حين اختارت طريق الانفتاح والإصلاح والنهضة الشاملة، وتغيير الأساليب والذهنيات، بمبادرة من الأمير محمد بن سلمان، ورعاية كاملة من الملك سلمان بن عبد العزيز. وقد تبدت نتائج ذلك في الاقتصاد والثقافة والدبلوماسية، وتعزيز موقع السعودية في قمة العشرين، وتنويع شراكاتها الاستراتيجية مع الاقتصادات الكبرى، وفي موعدين كبيرين على أرضها، حين استقبلت الرئيس الأميركي وبعده الرئيس الصيني. أتاحت هذه القرارات للسعودية أن تتحول قاطرة تقدم في الإقليم، مقدمةً نموذجاً لقدرة العربي على الانخراط في العصر، وبناء علاقات ندية وتنافسية.
نبحر في سنة جديدة. وهي سنة قرارات وخيارات.