طلال سلمان
يعيش العرب، ومن ضمنهم اللبنانيون، حالة من التيه: ينكرون أنفسهم، يحقِّرون تاريخهم، يبيعون جغرافية أوطانهم بالمناقصة العلنية، يتبرأون من هوياتهم عائدين إلى ما قبل القومية بل والوطنية، فإذا هم قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب ولا دين، لا قداسة للأرض ولا احترام لتراث الرسل والأنبياء والشهداء.
اغتالت أنظمةُ العسفِ الأوطانَ، فإذا الناس رعايا بلا هوية وبلا قضية، مَن اعترض خائنٌ، ومَن رفض القهر مرتدٌّ، والنسيان هو الطريق إلى السلامة، والنفاق هو السلم إلى مجد السلطة.
وها هي النتائج قاطعة في دلالاتها: ليست الأرض لأهلها الذين أعجزهم اليأس عن البقاء فيها أو عن الدفاع عنها، فجاء الأجنبي ليأخذها.. وهذه المرة بالطلب، بل بالرجاء والتوسل، مع التعهد بأن ندفع تكاليف «تحريرها» من طموحات أهلها وحقهم فيها، باعتبارها «الهوية الجامعة» و«القضية المقدسة» ومصدر الفخر بشرف الانتماء إليها.
إنه زمن التيه! وها هم «العرب» قد تبعثروا أيدي سبأ، وصارت عودة الاستعمار شرط حياة لهذه القبائل التي خرجت من «الدولة» وعليها لأنها لم تجد نفسها فيها. هي «دولة الغير» فليعد إليها «الاحتلال» من فوق رؤوس أهلها «فيحررها» ويقيم فيها ميزان العدالة بين الطوائف والقبائل والعشائر وصحواتها والمشايخ الذين يتولون حراسة الجاهلية من غزاتها الآتين من خارج الأرض والتاريخ والدين والعصر.
وفي مثل هذه الأيام لأربعين سنة خلت أو يزيد قليلاً عَبَرَتْ لحظةٌ مجيدة كان يمكن أن تؤسس لعصر عربي جديد: اتفقت قيادات العرب في مصر وسوريا أساساً، ثم التف من حولها أهل القرار في كل من ليبيا والجزائر والمغرب، وكذلك الأمر في العراق والسعودية والكويت وسلطنة عُمان، فاتخذوا قرار الحرب مع العدو الإسرائيلي موحدين... وكانت القفزة الأولى ممثلة بعبور القناة والعبور إلى الجولان المحتل أجمل من حلم... وتبدى النصر قريباً تكاد تقبض عليه أكف المقاتلين الذين اندفعوا ليصنعوا الفجر الجديد.
لكن الحلم سرعان ما سقط صريعاً برصاص مَن غدر برفاق السلاح.
وتبعثر «العرب» أيدي سبأ...
ها هم الآن يعرضون أوطانهم للبيع في مناقصة عالمية مفتوحة.
«على اونه، على دوي، على تري.. من يريد احتلال دولة عربية بنفطها فليقتحم أجواءها لمقاتلة الأشباح الذين يجتاحون المدن والسدود وآبار النفط بغير قتال. اضرب حيثما شئت، وخذ من الثروة والسيادة ما تريد. فالدنيا مشاع للأقوى. ويمكن اقتسامها مع «داعش» التي وفرت المبرر وفضحت العجز وانتفاء الوطنية وهجرة القومية وسيادة مفاهيم الجاهلية. إنها قسمة ضيزى بين منظمات الإرهاب بالشعار الإسلامي مع دول رعاية الإرهاب.. حماية للإسلام والمسلمين، كرداً وأقليات قبل «العرب» الذين يصورون كأقلية في أرضهم وأوطانهم التي كانت تبدو أكبر من قارة والتي غدت الآن أرخبيلاً من الجزر المتناثرة في بحر الظلمات».
... فإذا ما هبّ الفتية المؤمنون بالله ودين الحق وقداسة الأرض لصد هجمات «نصرة الإرهاب» و«دولة الخلافات الإسلامية» في الجرود التي تفصل وتربط بين الحدود اللبنانية والسورية، اعْتُبِر هذا العمل الدفاعي البديهي توريطاً للبنان في ما لا شأن له به!
لقد أعمى الغرضُ العيون والعقول، حتى اندفع البعض يبرر لمقاتلي «النصرة» هجومهم ويلوم المدافعين عن السيادة وشرف الأرض لأنهم يريدون توريط لبنان في حرب لا شأن له فيها!!
مع ذلك سيظل المؤمن على إيمانه بأرضه المقدسة، وسيبقى متحصناً فيها يدافع عنها وعن أهلها جميعاً، بمَن في ذلك مَن ينكر عليه شهادته الحق وقدسية دمه الذي بذله لحمايتها بكل أهلها، مَن يختلف معه ومَن يتفق في الرأي وفي الموقف معه.
«لولا حب الوطن لخرب بلد السوء..»
و«حتى على الموت لا أخلو من الحسد..»
والحمد لله أن لله رجالاً يرفضون الهزيمة، ولا يندفعون إلى الاستعمار، جديده والقديم، يطلبون منه العودة «لتحرير أرضنا منا» وبناء «دول بديلة» من تلك التي ابتدعها قبل قرن كامل، فإذا هي كيانات من قش تذهب بها رياح الطائفية والمذهبية والعشائرية، فتعود إلى المستعمر الجديد متوسلة أن ينقذها من ذاتها، من شعبها ووحدته، قبل طغاتها ومخلّفات مستعمريها القدامى الذين يرجعون إلينا كحرس شرف للسيد الأميركي، مستولِد الطغيان وراعيه والجماعات التكفيرية وحاضنتها الدائمة.