طلال سلمان
استفاق أهل النظام العربي بقياداته السنية أساساً، ثم مرجعيات الطوائف الإسلامية الأخرى، حاكمة أو معارضة، فضلاً عن المسيحيين عموماً، على ظاهرة «داعش» التي كانوا يصفونها بـ«العصابات المسلحة»، وهي تعلن قيام دولتها في العراق والشام، وتنادي بقائدها خليفة للمسلمين.
اضطرب المشرق جميعاً، خصوصاً أن «داعش» التي انقضّت بشكل مباغت على ثاني مدن العراق، الموصل، التي يقارب عدد سكانها مع ضواحيها حوالي ثلاثة ملايين نسمة، سرعان ما ملأت «الفراغ» الهائل على امتداد المسافة بين الرقة في شرق سوريا وحتى تكريت في شمال شرق العراق.
أفاد الأكراد، مباشرة، من تضعضع السلطة المركزية في بغداد، فتقدموا ليأخذوا محافظة كركوك، ثم لوحوا بإعلان استقلالهم في «دولتهم» ـ وهي حلمهم التاريخي،
تفجرت الخلافات داخل السلطة المركزية في بغداد، سياسياً وطائفياً،
استفاقت إيران وتركيا، ومن بعدهما الإدارة الأميركية والقيادة الروسية، على خطر جديد يهدد خريطة المنطقة بالتمزيق... واهتزت دول الخليج، وأفاقت المملكة العربية السعودية على الخطر الجديد الزاحف نحوها من شمالها.
وتجدد الحديث عن الخرائط الجديدة للمنطقة في ظل التهديد الجديد لقيام الدولة الإسلامية لاغية الحدود بين «الدول التي استولدها الاستعمار».
في دول العالم المتحضر حسم الجدل، منذ زمن بعيد حول الدولة ونظامها: الجمهوريات جمهوريات والممالك ممالك، والتغيير ـ إذا ما وقع ـ يستهدف السلطة لا الدولة ولا النظام.
أما في الأقطار العربية فما تزال «الدولة» موضع نقاش في الغالبية منها.
بين الطموح إلى «الوحدة» التي قد تندمج فيها دول «استنبتها» الاستعمار ولم يكن لها وجود في التاريخ، لا سيما في المشرق العربي، وبين الإقليمية المصفحة غالباً بالطائفية أو المذهبية، وهي «مصلحة» استعمارية وجدت من يبررها ويزوّر لها شهادة وجود تاريخي متصل عبر القرون، تحصن «الدولة» المستولدة قيصرياً وتغدو موجودة بقوة الأمر الواقع.
ليس في التاريخ دولة اسمها العراق، ولا دولة اسمها سوريا، فضلاً عن لبنان، فالمسميات كانت لتحديد الجهات وليس الهوية الوطنية... كذلك لم تكن في شبه الجزيرة العربية دولة، ولا على شواطئ الخليج الممتد من شط العرب حتى مضيق هرمز، حيث أقيمت ثلاث دول (الكويت، الإمارات وقطر)، فضلاً عن سلطنة عمان التي كان لها دائماً حيثيات مختلفة.
لا بابل هي عراق اليوم، ولا كان للحثيين أو الأشوريين «دولة» - بالمعنى الذي نعرفه - أي كيان سياسي محدد، وإن كانت جحافلهم قد اجتاحت المشرق كله، موسعة أرجاء الإمبراطورية باحتلال بلاد الآخرين.
وفي عصر ما قبل الإسلام كان المشرق، وتحديداً معظم ما يسمى «الهلال الخصيب» أي سوريا، لبنان، فلسطين وبعض العراق الحالي، تحت حكم الإغريق ثم الرومان ثم البيزنطيين... فلما جاء الإسلام وانتشر في كامل المنطقة العربية صارت دولة الإسلام خلال خلافة بني أمية إمبراطورية جديدة بعاصمتها دمشق. ثم صارت العاصمة بغداد مع قيام دولة بني العباس، إلى أن اندثرت دولة الخلافة وتقاسمها المماليك والسلاجقة، حتى جاء بنو عثمان فأقاموا إمبراطوريتهم تحت الشعار الإسلامي والسلطان العثماني.
«الدولة» التي نعرفها في المشرق عمرها أقل من مئة عام وقد أنشأها الاستعمار ولم تتم ـ بحدودها الراهنة ـ بإرادة أهلها، بل وفق مصالح الدول الأجنبية التي هيمنت على المنطقة بعد هزيمة تركيا وألمانيا في الحرب العالمية الأولى.
ولقد رسمت حدود دول المشرق بحسب مصالح الدول المنتصرة، وظلت موضع خلاف حتى نجحت المساومات في ما بينها في تقطيع الجغرافيا بما يناسب أغراضها. وهكذا، وفي آخر لحظة مثلا، أعطيت الموصل التي كانت تطالب بها تركيا للعراق بدلاً من سوريا، وأعطيت اسكندرون لتركيا بعدما اقتطعت من سوريا.
وبسبب تحكم مصالح الدول المستعمرة في رسم حدود الدول المستولدة، فقد كانت هناك مشكلة متفجرة بين العراق والكويت إذ اعتبر أنها اقتطعت منه بنفطها، وفرضت تسوية بالأمر تقريباً، عند إعلان قيام دولة الكويت، وتدخل العالم كله، وكان موقف جمال عبد الناصر حاسماً إذ رفض الوحدة بالقوة. كذلك كانت ثمة مشكلة حدودية مع السعودية سببها النفط، ومن اجل حلها، اخترع ما يسمى بالمنطقة المحايدة، واتفق على صيغة مؤقتة حولها ما تزال مرعية التنفيذ حتى اليوم.
أما المملكة العربية السعودية فقد قامت بالسيف والنفط وتقاطع المصالح الأجنبية، بما يعزلها خلف مساحتها الشاسعة بثرواتها الهائلة عن بقية إرجاء المشرق، ويترك لأسرتها أمور داخلها بعد تثبيت التفاهم على النفط بقرار أميركي معلن.
وبديهي أن اليمن التي بقيت متروكة لإمامها في القرون الوسطى، بعد حرب ضارية مع السعوديين، فقد ظلت خارج الذاكرة، في حين أن جنوبها كان مجموعة من السلطنات والمشيخات الفقيرة حتى الجوع، بينما كانت عدن قاعدة بريطانية تسيطر على تقاطع البحار أمامها.
لمزيد من التوضيح: زرع الاستعمار أسباب الشقاق والخلافات بين الدول التي أقامها من فوق رؤوس أهلها، واثقاً من أن هذه الدول تحمل أسباب التصادم في خرائطها كما في تقسيمات أهلها بأديانهم وطوائفهم ومذاهبهم، والأهم بعشائرها التي قسم بعضها بين ثلاث أو أربع دول (السعودية ـ العراق ـ الأردن ـ سوريا).
بالطبع كانت هناك اعتراضات شعبية على هذه التقسيمات، لكنها عموماً كانت اضعف من أن تمنعها... فقد رفض الشيعة في العراق المشاركة في الحكم تحت ظل الانتداب البريطاني، وتم تركيب السلطة من دونهم. ولقد بقوا خارج دائرة القرار - فعلياً - حتى قيام ثورة 1958، ثم دخلوا فيه رمزياً من ضمن حزب البعث العربي الاشتراكي. ولكن شعورهم بالغبن والتهميش ظل قائماً، بل لعله قد تفاقم خلال الحربين اللتين شنهما صدام حسين ضد إيران ولمدة سبع سنوات (1980 ـ 1987)، ثم ضد الكويت لإعادتها إلى وطنها الأم العراق» (1990 ـ 1991)، وهي الحرب التي انتهت باحتلال الأميركيين جنوبه وتهديد عاصمته... وبعد ذلك تذرعوا - كذباً - بامتلاك صدام أسلحة دمار شامل واجتاحوا العراق جميعاً، وألقوا القبض على صدام حسين ومعظم أركان حكمه، عسكريين وحزبيين، وأصدروا عليه حكماً بالإعدام قبل أن يسلموه إلى جماعات شيعية مهتاجة لتتولى شنقه وسط تظاهرة بشعة تستفز الحجر، لتأجيج الاحتقان بين السنة والشيعة.. ثم أكمل الاحتلال جميله بتسليم السلطة إلى الشيعة بذريعة أنهم كانوا محرومين منها.
كان في العراق مشكلة كردية هي بعض تجليات ظلم التاريخ والجغرافيا..
ذلك أن الأكراد كانوا يتوزعون بين ثلاث دول: إيران والعراق وتركيا، مع أقلية في سوريا. ولقد حرمهم واقعهم الجغرافي وتحكم القوى الاستعمارية بقرار المنطقة بدولها المستحدثة من أن تكون لهم دولتهم القومية. وكان عرب العراق الأرحم بهم نسبياً، إذ أقروا لهم بحكم ذاتي في إقليمهم بشمال العراق داخل الدولة العراقية.. ولم تكن تركيا متحمسة لهذا القرار لأن فيها من الأكراد أكثر مما في العراق، وكذلك إيران.
وقد وجدت إسرائيل في المرارة الكردية وسيطرة الاحتلال الأميركي فرصة للتغلغل في الشمال الكردي.
كذلك فإن الجوع الشيعي إلى السلطة والثأر من حرمانهم الطويل قد أقام فاصلاً بينهم وبين السنة ورغبوا بتعويضه.
وهكذا لم يستقم الحكم في العراق. فقد زرع الاحتلال الأميركي، معززاً بالشبق الشيعي إلى السلطة وإحساس السنة بأنهم قد استبعدوا عن القرار، كل ذلك قد أسس لفتنة مفتوحة: اتُهم الشيعة بالهيمنة واستقل الأكراد بقرارهم في منطقتهم ونالوا أكثر من حصتهم في الحكم المركزي (رئيس الجمهورية وعدد كبير من الوزراء أبرزهم وزير الخارجية ومواقع حاكمة في الجيش والأمن)، في حين عومل السنة كأقلية، وحملوا خطايا صدام حسين.
ثم إن دول الجوار لم تكن ترغب بقيام عراق قوي.
كان الحكم في أزمة مستمرة وقد طاولته الاتهامات بالفساد وسادت الرشوة وعمليات النهب المنظم للثروة الوطنية. نال الأكراد حصتهم على حدة، وشاركوا في الحكم المركزي بأكثر من نصيبهم في لعبة ثنائية: فهم كرد مرة، وهم سنة مرة أخرى. ضعفت الدولة المركزية وساعد الفساد بقايا المعارضة السنية على رفع صوتهم بالاعتراض متهمين الشيعة بأنهم إنما يحاولون الثأر عبرهم من تاريخ «الفتنة الكبرى». وحين تفجرت الحرب في سوريا وعليها واستطالت في الزمن وتخلت الدولة المركزية عن أنحاء عدة أبرزها في الشرق، على حدود العراق، توفرت فرص ممتازة لمن يريد الخروج على الحكم المركزي في بغداد...
إلى أين من هنا؟
المؤكد أن هذه المنطقة ستعيش حقبة من الاضطراب الدموي التي يصعب التكهن بنتائجها... لا سيما في غياب مصر وخوف السعودية والخلاف على تقاسم النفوذ بين طهران وواشنطن.
أين العرب؟
تلك هي المسألة.