طلال سلمان
.. وكان لا بد أن تصل إلى لبنان بعض جحافل المقاتلين بالشعار الخطأ الآخذ إلى الماضي بعدما فاضت عن حدود الدول في هذا المشرق الذي تعيش شعوبه في دوامة تأخذها إلى الضياع بعيداً عن آمالها (وحقها) في مستقبل أفضل.
لقد تعاظم الغلط فزعزع اليقين واغتال الآمال وأقام خنادق من الدم بين الشعوب والأنظمة التي تحكمها من خارج إرادتها وتعتبر المعارضة «خيانة» وتحاكم على النيات وتحاسب المتردد في تأييدها وكأنه قد ارتكب جريمة لا تغتفر... ولم يتبق من ملجأ إلا الدين الذي وجد من يتخذه شعاراً للخروج من الحاضر عائداً بالناس إلى الماضي السحيق حين كانت الشعوب «رعايا» وكان الحاكم ينظر إلى نفسه ويفرض على الناس أن ينظروا إليه على أنه ظل الله على الأرض، وأنه وحده مصدر الشهادة لهم بأنهم «مؤمنون».
وها هم «العرب» يسبحون في بحيرة من دمائهم تكاد تغطي معظم المشرق وبعض المغرب. تفجرت خطايا الأنظمة الآتية من خارج إرادة شعوبها فتصدعت «الدول»، لا سيما التي استولدها الاستعمار القديم، وخرجت بين السراديب أنماط من العصابات آتية من ليل الجاهلية، معززة بأحدث الأسلحة وأقواها تدميراً وآخر ما ابتدع من وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي.
ليس من نظام يستطيع الادعاء أنه يعبّر عن طموح شعبه، وأنه قائم بإرادته فعلاً ومن أجل تحقيق آماله المشروعة في مستقبل أفضل يستحقه بجدارته واستعداده لأن يبذل نور عينيه وعرق الجبين من أجل بنائه. على أن هذا النظام، أي نظام، يطمئن نفسه إلى أنه بين المصالح العليا «للدول»، وبالتالي فهو باق ويا جبل ما تهزك ريح.
عمّ اليأس وخرج الناس من صمتهم إلى الشارع فتلقفهم صراع الأنظمة ليوظفها الخائف من داخله وعلى داخله ضد الآخر، الخصم، بما يشغلهم عنه فيحاربون له خصمه من قلب بيته.
وها هي الفوضى الدموية تدمّر الدول التي كانت تبدو منيعة، وتضرب وحدة الشعب التي كانت مضرب المثل في الصلابة، وتغلق باب المستقبل بركام الخراب والانقسام الآخذ إلى الحرب الأهلية.
«لا وقت لفلسطين الآن. ولا بد من «فتح البلاد» وإعادة أهلها إلى الإيمان بعدما تاهوا في غيّهم قبل التفرغ لمواجهة إسرائيل.. ثم إن اليهود أهل كتاب، وهم لم يعلنوا الحرب، ولم يتقدموا للقتال ضد «الخليفة»، وبما أنهم قد جنحوا إلى السلم فلنجنح لها... أقله حتى نفرغ من إعادة الضالين إلى جادة الإيمان. بعدها يمكن الثأر لشهداء غزة. الموصل أهم من غزة، ففيها نهر الخير، الفرات، وفيها أنهار من الذهب الأسود. وبعد الموصل بغداد، ثم دمشق، أو بالعكس... أما لبنان فأمره معقد إذ فيه كثير من الدول، فلنرجئ «فتحه». يكفينا منه أن يكون مصدر تموين وقواعد إسناد سياسي.. وداخله، في أي حال، مضطرب، ومن السهل استغلال تنوعه لاستدراج الدول إلى الحديث معنا، وربما الاعتراف بنا.. وبدولة الخلافة الإسلامية العتيدة. ولنا في لبنان، بشماله وجنوبه وعاصمته وجبله وبقاعه، مناصرون وأتباع، ثم إنه يمكن «شراء» بعض من عملوا لغيرنا ويعرضون الآن أن يعملوا لنا. لقد أفاد من حركتنا كثيرون، إذ خلّصناهم من خصومهم، ولنا عليهم الحق في مساعدتنا. لتكن «عرسال» المركز، فموقعها مثالي في قلب السلسلة الشرقية. إنها حصينة بما يكفي. ومن الممكن الإفادة من ظلامتها التاريخية وشعورها الدائم بأنها محاصرة... أما إذا رفض أهلها التعاون فليبحثوا لهم عن مكان آخر، إذا تحصنّا فيها وفي جرودها من حولها فلن يستطيع أي جيش أن يصل إلينا أو ينال منا. وفي أي حال فنحن أعظم تسليحاً من جيش لبنان ولا نخاف الموت لأنه طريقنا إلى الجنة، ثم إن اللبنانيين يخافون الفتنة ونحن صنّاعها!».
لكن «الخليفة» وصحبه سيفاجأون باللبنانيين، الذين لا تقدّم طبقتهم السياسية صورة صحيحة عنهم. فهم واحد حين يتهددهم الخطر. وبالتأكيد فلا أحد يناقش في هذه اللحظة طبيعة الخطر الذي يحيق بهم. ثم إنهم قد يختلفون على أمور كثيرة ولكن جيشهم خارج دائرة الخلاف، ولعله وحده من يحوز إجماعهم. وها هي كل البلدات المحيطة بعرسال قد تخففت من خصوماتها ومناكفاتها وفتح أهلها قلوبهم لأبناء عرسال في محنتهم، خصوصاً أنهم شركاء فيها ولا مهرب لهم من تداعياتها المدمرة إذا ما نجحت ألوية «الخليفة» في الثبات في عرسال أو اتخذتها منصة لصواريخها وثكنة «لمجاهديها» الذين لا يعترفون بالأوطان ولا بالدول ولا بالمؤمنين المصلين الصائمين والذين عليهم أن يبايعوا وإلا فالسيف.
عرسال هي لبنان كله الآن بشعبه وجيشه وحكومته التي استولدت قيصرياً.
وقلوب اللبنانيين جميعاً مع عرسال، ومع جيشهم، ولن يبايعوا غيره وهو يتقدم لحمايتهم بدولتهم، على علاتها.
لم يعترف «الخلفاء» يوماً بالحدود والدول التي خلفها فكلها أرض الله ومن حق الخليفة أن يأخذها بالسيف إذا هي رفضت بيعته.. ورافض البيعة «كافر» حتى لو كان اسمه «محمد».