طلال سلمان
مؤكد أن القيادات السياسية العربية، على اختلاف مواقعها ومواقفها، قد «فوجئت» بالحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة هاشم ـ فلسطين، سواء بتوقيتها القاتل، أو بقوة نيرانها التي لم توفر المستشفيات ومراكز علاج المعوقين فضلاً عن بيوت النازحين مراراً والذين باتوا الآن في العراء، مجدداً، ولا معين.
ذلك أن كلا من تلك القيادات، سواء في المشرق أو في المغرب، لديه أثقال من الهموم والمشكلات التي لا يعرف كيف يتعامل معها، وبالتالي، فلا وقت لديه ولا قدرة على التركيز لمواجهة حدث خطير كالحرب الإسرائيلية على غزة، وبالتالي إعادة فرض «البند الفلسطيني» كعنوان كان قد جرى طمسه بالقصد لتمويه حقيقة أن الصراع عربي ـ إسرائيلي، مهما بلغت براعة المزيفين في استخدام «الكيانية» و«الإقليمية» التي تكاد تتخذ بعداً عنصرياً لطمس الهوية الأصلية لهذا الصراع.
فغزة هي فلسطين، بعضها بالجغرافيا، ولكنها فلسطين جميعاً بالهوية، وهي ـ بالاستطراد ـ عنوان تفصيلي للصراع العربي ـ الإسرائيلي مكتوب بدماء الشهداء وأجداث الأطفال وركام البيوت الفقيرة المهدمة، وسائر المشاهد الثابتة في وجدان المصريين والسوريين واللبنانيين، أساسا، وفي وجدان الأردنيين والعراقيين والخليجيين كذلك، فضلاً عن الليبيين والتوانسة والجزائريين والمغاربة وصولاً إلى أهل شنقيط ـ موريتانيا.
وأي حرب إسرائيلية هي حرب على كل العرب، يستوي في ذلك من افترض انه خرج منها بمعاهدة صلح أو باتفاق سري توهم انه يشكل ضمانة لحماية أمنه القومي، أو بتواطؤ لم يعلن، لكن توغل إسرائيل في قتل شعب مستضعف في بقعة صغيرة من أرض فلسطين، محاصرة جواً وبراً وبحراً، يفضحه ويدين أطرافه جميعاً، ويحمّلهم مسؤولية هذا الدم المهدور، بحيث يستحيل عليهم ادعاء البراءة وخلو طرفهم من المسؤولية، بأي ذريعة...
ذلك أن فلسطين مزروعة في كل أرض عربية، وهي أصل الوجدان العربي العام، بغض النظر عن التقلبات السياسية وطبيعة الأنظمة، القائمة أو تلك التي أسقطتها الثورات أو الانقلابات ودائماً بعنوان المسؤولية عن فلسطين والواجب المقدس في حمايتها، أو بعنوان ضرورة تأمين الأمن الوطني لأي بلد عربي في وجه الخطر الإسرائيلي المفتوح.
في غياب الحرب الإسرائيلية يمكن مناقشة «حماس» بل والاختلاف معها على منهجها الفكري، وتغليبها هوس السلطة على واجبها الوطني ـ القومي، في تسخير قدراتها لحماية القضية المقدسة بتكريس النضال من أجل تحريرها.
أما مع أول طلعة طيران للعدو الإسرائيلي، ومع أول قذيفة مدفعية إسرائيلية تستهدف منازل هؤلاء الفقراء المتروكين للريح في ذلك الشريط الضيق من فلسطين الذي يشارك في حصاره العرب إلى جانب العدو الإسرائيلي، فلا بد من إرجاء المحاسبة... لأن الدم المهدور غيلة يفرض ـ بقداسته ـ أن يجمع العرب، والمعنيين منهم مباشرة بحكم الجغرافيا، من حول الضحية بأسلحتها الدفاعية، بالغة ما بلغت أعدادها، قياساً إلى هذه القلعة الصهيونية المعززة بالغطاء الدولي لاحتلالها وعدوانيتها... فضلاً عن كونها ترسانة لأسلحة القتل الجماعي متعددة المصدر، إضافة إلى كونها مصنعاً متطوراً للسلاح الفتاك بدءا بالصواريخ بعيدة المدى (التي تهدد بها حتى طهران) والطيران الحديث جداً، والقبة الحديدية حامية القلعة النووية في ديمونا والتي لا تخفي القيادة الإسرائيلية أنها مؤهلة لإنتاج السلاح النووي.
تقضي الصراحة القول إن «حماس» قد ارتكبت أخطاء فادحة في السياسة. والمنشأ في الأخطاء، أصلا، يكمن في الهوية الاخوانية لهذا التنظيم، وهي قد أخذته بعيداً عن قضيته (فلسطين) بوهم، أن الشعار الديني هو السلاح الفعال في مواجهة الأسطورة الدينية لإسرائيل... وهذا الوهم قاتل، لأن إسرائيل مشروع استعماري مكشوف يستهدف الأمة العربية جميعاً بعنوان فلسطين، وأصحابه نجحوا في استغلال أسطورة المحرقة النازية لليهود في ألمانيا وبعض أوروبا، فوظفوا الدين لخدمة مشروع سياسي واضح الهدف: تثبيت ركائز الاستعمار الغربي، أساسا، بعنوان ديني، وبحكاية اضطهاد عنصري لأتباع الدين اليهودي. فمن عاشوا عبر التاريخ في المنطقة العربية، شأنهم شأن أتباع الديانات الأخرى، الإسلامية والمسيحية، لم يلحق بهم أي اضطهاد، لا على أساس ديني ولا على أساس عنصري. فالعرب، بأكثريتهم الإسلامية، وأقلياتهم المسيحية، يقرون باليهودية كدين سماوي، ويشتركون مع اليهود في احترام «أنبيائهم»، وهم عند هؤلاء جميعاً أنبياء.. أما أسطورة أرض الميعاد واستقدام من اضطهدهم الغرب ليتخذوا منها وطناً قومياً ودولة معادية لأهلها فهذا هو الاستعمار بعينه، خصوصاً وقد جاء معززاً بتأييد الشرق والغرب معاً، وفي لحظة كان فيها الوطن العربي مجموعة من المستعمرات والمحميات الغربية، تحت عناوين براقة لممالك وجمهوريات وإمارات مستقطع بعضها من بعض، تحكمها علاقات عشائرية تستبطن خلافات قبلية وحدودية مستحدثة، في غياب أي ذكر للوطن بحدوده الأصلية والتي تحددها انتماءات أهله وعمق ارتباطهم بالأرض التي كانت لهم وكانوا فيها على امتداد التاريخ بتقلباته جميعاً.
ما لنا وللماضي، لنعد إلى الحاضر... والحاضر يقول إن إسرائيل تشن حرباً مدمرة، بأسلحة دمار شامل، على مخيم واسع نسبياً للاجئين فلسطينيين من أنحاء مختلفة من فلسطين، يعيشون فيه منذ 1948، وقد تكاثروا بعد الحروب الإسرائيلية العديدة على العرب (الاعتداء الثلاثي في العام 1956، حرب حزيران ـ يونيه 1967، حرب أكتوبر ـ تشرين الأول 1973) فضلاً عن الحرب الإسرائيلية المفتوحة على الفلسطينيين، وتهجيرهم، والفصل بينهم وتشتيتهم بين «الداخل» و«الضفة» و«قطاع غزة»، فضلاً عن فلسطينيي الشتات المنتشرين في دول الجوار العربي، كما في أربع رياح الأرض.
والحاضر يقول إن إسرائيل لا تقاتل الإخوان المسلمين في منظمة «حماس» بل هي تقاتل وتقتل الفلسطينيين عموما، نساء وأطفالا وشبابا وكهولا وشيوخاً بغض النظر عن انتماءاتهم، وما إذا كانوا ينتمون ـ أصلا ـ إلى هذا الفصيل أو ذاك من فصائل المقاومة الفلسطينية.
الحاضر يقول أيضا إن إسرائيل تحاول الإفادة من الأوضاع العربية المتردية والمضطربة، بدءا بسوريا وصولاً إلى العراق من غير أن ننسى لبنان، وعلى الضفة الأخرى مصر التي تعيش أوضاعا سياسية قلقة وأوضاعا اقتصادية في غاية الصعوبة، ثم ليبيا التي تكاد تضيع في غمرة حرب أهلية مفتوحة، وصولاً إلى تونس التي لم تستعد هدوءها تماماً، والجزائر التي تقاتل الإرهاب على جبهتين: في الجنوب الذي يمتد من أقصى جنوب ليبيا إلى مالي وجوارها، ثم المغرب الذي تهزه أزمة سياسية ـ اقتصادية معقدة... وانتهاء بالسلطة الفلسطينية التي يغيبها العجز عن القرار، فلا تجد إلا تصريحات رئيسها الذي بلا دولة محمود عباس، واستنجاده العبثي ببعض المؤسسات المنسية للأمم المتحدة وحقوق الإنسان.
...وتظل مسؤولية مصر أساسية. فخطورة المذبحة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزه أقسى وأفدح تأثيراً من أن يغطيها الخلاف مع «حماس».
الأمر يتجاوز «حماس» إلى الشعب الفلسطيني كله، والى قضيته المقدسة.
والواجب الوطني والقومي والإنساني يفرض تجاوز الخلافات السياسية والعقائدية مع «حماس» والالتفات إلى إنقاذ الشعب الفلسطيني بوقف المذبحة التي يتعرض لها والتي تستهدف كل ما أمكن بناؤه في غزه في ظروف قاسية.
ومصر أكبر بكثير من أن تأخذ شعب فلسطين كله بجريرة خلافها مع «الإخوان» المسلمين... ففلسطين أغلى وأبقى من أي تنظيم. وبعد ردع العدوان الإسرائيلي، وهو بمعنى من المعاني اعتداء على مصر، بل لعله ما كان ليستشري إلى هذا الحد لو أن العلاقة بين مصر و«حماس» طبيعية، يمكن تسوية أو تصفية الخلاف مع «حماس».
إن إنقاذ غزة مهمة قومية وإنسانية نبيلة. وهي بالنسبة لمصر مهمة وطنية مصرية. فالخلاف مع «حماس» سياسي أما الاختلاف مع إسرائيل فهو خلاف مصيري يمتد ليشمل الأرض والتاريخ والمستقبل خصوصاً، بغض النظر عن اتفاقات الصلح التي عقدت في ظروف معلومة ونتيجة ضغوط وتأثيرات معروفة.
مصر وحدها المعنية، ومصر وحدها المؤهلة، ومصر وحدها المسؤولة.
والموقف المصري الوطني ـ القومي ـ الإنساني هو القاعدة والأساس في التأكيد أن العروبة والوطنية (ومن ضمنهما حماية مصر) هما ضمانة الصمود أمام غرور القوة والحروب العنصرية التي تشنها إسرائيل مرة على لبنان، ودائماً على فلسطين بعنوان غزة، وبين حين وآخر على سوريا.. وكل ذلك يصيب مصر في موقعها القيادي وفي موقفها السياسي بقدر ما يصيب أمتها العربية.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية