طلال سلمان
مخطئ من ينظر إلى الحرب الإسرائيلية الثالثة أو الرابعة على غزة هاشم وكأنها تستهدف منظمة «حماس» التي تتحدر من جماعة «الإخوان المسلمين» أو «منظمة الجهاد الإسلامي» المتمايزة عنها، ولا هدف لها خارجهما ولا غرض لها إلا القضاء على سلاحهما المستجد والمؤثر متمثلاً في الأنفاق حاوية الصواريخ وخارقة «الحدود»..
لقد تخلت «حماس» (ومعها الجهاد) في الفترة الأخيرة عن مطامحها إلى التفرد بالسلطة في غزة، واستجابت لدعوات التهدئة الآخذة إلى المصالحة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية بمختلف توجهاتها وتلاوينها العقائدية والسياسية، وعادت ـ بشكل ملطف - إلى أحضان منظمة التحرير تحت قيادة محمود عباس... وربما كان بين أهداف هذه العودة محاولة تطمين الحكم الجديد في مصر، تحديداً، إلى أن «حماس» التي لا تنكر إخوانيتها ليست بالضرورة متصلة بحبل الصرة مع إخوان مصر، وانها مستعدة للتمايز عنهم، لا سيما في ما يتصل بالموقف من الحكم الجديد في مصر، بشرط أن تفتح لها القاهرة الباب ولا تشترط عليها التنصل من إخوانيتها تماماً، بل تقبل توجهها الجديد مع استعدادها للخضوع لامتحان.. مخفف.
ويروي الرواة أخباراً عن أن التمايز داخل «حماس» بين قيادة الخارج، التركية في إخوانيتها، القطرية في تمويلها الذي ينعكس تأثيراً مباشراً على توجهاتها السياسية، قد بلغ في الآونة الأخيرة ذروته... والدليل على ذلك أن قيادة الداخل لم تكن متحمسة للدور القطري ـ التركي، ولا للقاء الخماسي الذي عقد في باريس بطلب قطري تركي وبمشاركة أميركية ـ أوروبية والذي أخذ «القضية» بعيداً عن أهلها، وكأنها خرجت من العرب والعروبة، وصارت مجرد مسألة دولية، تقرر فيها ولها العواصم البعيدة، في غياب العرب، وعلى حساب كرامتهم ومصالحهم القومية وسمعتهم في العالم وفي الداخل العربي.
يزيد الرواة فيقولون إن القائد العسكري في الداخل أبو خالد محمد الضيف قد تعمد أن «يظهر» ولو مطموس الملامح وهو يتلو بيان العملية الممتازة عبر الأنفاق والتي اخترق فيها بعض مقاتلي «حماس» أجهزة الرقابة متعددة المهمات، ووصلوا إلى مركز عسكري إسرائيلي، فواجهوا من فيه وقتلوا عدداً منهم ثم عادوا ـ بهدوء مثير- عبر النفق وقد غنموا بعض سلاح أولئك الجنود.
أما التفسير لهذا الظهور فهو الإعلان، عبر عملية عسكرية مميزة في دقتها ونجاحها، أن قيادة الداخل لها حق الكلام بما هي القيادة الميدانية، باستقلال عن قيادة الخارج، خالد مشعل، وربما بما يغاير توجهاته وتصريحاته المطولة والتي اعتاد أن يطلقها من قطر، وليس إلا منها.
بمعزل عن هذا التطور ودلالاته، فلقد كان صمود غزة، بشعبها جميعاً، وبمقاتلي التنظيمات الفلسطينية المتعددة، وفيها حماس والجهاد والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و«الديموقراطية» والقيادة العامة، صدمة عنيفة لقادة الحرب لدى العدو الإسرائيلي، سياسيين وعسكريين، بقدر ما شكلت مفاجأة مفرحة للشارع العربي الذي تنهكه حروب تشليع الدول واستيلاء تنظيمات مسلحة، أبرزها ذلك الذي يرفع لواء الخلافة على جهات عدة، فتحرق المدن والقرى، وتباشر الإعدامات الميدانية للجنود وللمواطنين في محافظة نينوى، شمال العراق، داخل الموصل ومن حولها.
والحقيقة أن هذه التنظيمات ذات الشعار الإسلامي والتي تظهر «الإخوان» كهواة في السياسة وحتى في أعمال التخريب، قد استقطبت اهتمام الشعوب قبل الدول على امتداد الوطن العربي، كما أحدثت صدمة على مستوى المجتمع الدولي. لقد تبدت مجاميع من المقاتلين الهمج الآتين من تراث الجاهلية، المسيرين بالتعصب الأعمى، الذين يحترفون القتل والتدمير وينغمسون في تأجيج الفتنة، بذريعة التمهيد لقيام دولة الخلافة الجامعة في القرن الحادي والعشرين، بشعارات مستعادة من عصر الانحطاط، وأزياء مستولدة من أيام الجاهلية، يرتديها مقاتلون بلا وجوه، يحترفون القتل العلني بتلذذ الحشاشين وتقاليدهم العريقة.
على أن هذه التنظيمات قد قدمت خدمة لـ«حماس» «والجهاد» وتنظيمات إسلامية أخرى جعلت هدفها الأول والأخطر قتال الاحتلال الإسرائيلي، حصراً، بقدر ما جعلت «الجمهور» يعيد تصنيف حملة الشعار الإسلامي عموماً، فيميز بين الذين «يجاهدون» ضد الاحتلال الإسرائيلي فيقاتلون على أرضهم ومن أجل حقهم في أرضهم، وبين الذين ينادون بشعارات مستعادة من ماض لن يعود ولن تنفع الساعات الثمينة ولا سيارات الدفع الرباعي ولا الرايات السوداء المطرزة بشعار «لا اله إلا الله محمد رسول الله» في إقناع جمهور المؤمنين بأن هؤلاء الجاهليين هم المؤهلون لبناء الغد الأفضل.
كان المشهدان المتناقضان يتعاقبان على شاشات الفضائيات: شعب يتعرض لمذبحة إسرائيلية مفتوحة فيتقدم شبابه المنتمون إلى تنظيمات إسلامية ومعهم مجاميع المنتمين لأحزاب وجبهات علمانية، ومن خلفهم جمهور المواطنين الفلسطينيين في غزة وتجمعات اللاجئين للمرة الثالثة أو الرابعة في بلدات كبيرة أو صغيرة من حولها على امتداد ذلك الشاطئ الضيق من فلسطين، للقتال دفاعاً عن النفس وعن «جزيرتهم» المحاصرة... ويسقط الأطفال اللاهون عن الحرب قتلى لأنهم هربوا في اتجاه البحر، ولعلهم رغبوا في السباحة فيها فطاردتهم النار الإسرائيلية حتى الموت!
ثم إن شعب فلسطين في غزة، قد قدم نموذجاً فذاً في الصمود بدمه، في أرضه المكشوفة، للحرب التي لم تنجح إسرائيل في تبريرها لدول العالم أجمع، بما في ذلك «الدول الصديقة» التي تحمي هذا الكيان العنصري القائم بالقوة والمعتمد دائماً سياسة «التدمير الشامل» لكل من اعترض على نهجه الوحشي، ولعل مذابح الأطفال في مدارس «وكالة الغوث الدولية» قد حسمت النقاش حول هذه الحرب المعلنة من طرف واحد، خصوصاً وقد تعززت بجثث لأطفال مقتولين بالقصف الجوي أو البري أو بالقنص المدفعي في مختلف أنحاء غزة وسائر المدن في القطاع المحاصر.
تبدت إسرائيل أبشع من القتلة الجائلين بامتداد البادية السورية ـ العراقية منفذي أحكام الإعدام في كل من وقعت عليه أياديهم، مشردي أبناء الأرض من مدنهم وقراهم بعد التشهير بدينهم والتعامل معهم كأهل ذمة، قتلة أبناء الحياة حتى وإن لم يعرفوا هوياتهم..
بالمقابل، تبدى مقاتلو «حماس» وسائر التنظيمات الفلسطينية في غزة محاربين يردون بما ملكت أيديهم من سلاح، وهو لا يقارن بما تحتويه الترسانة الإسرائيلية، على نيران عدوهم الذي يشن عليهم حرب إبادة، بنسائهم وأطفالهم وشيوخهم، بمدارسهم والمساجد والمستشفيات والبيوت الفقيرة، يدك الأحياء في المدن والمزارع في الأرياف وبيوت الفلاحين الذين يبذلون العرق في زراعة بعض البعض من أرضهم الضيقة بما يقيم أودهم.
هذا في الميدان..
ومع وعي العرب، في مصر وخاصة خارجها، بالأزمة الخطيرة التي تحكم علاقة الدولة بنظامها الجديد مع «الإخوان»، سواء منهم من هم داخل التنظيم في مصر أم في التنظيم الدولي، وبين ابرز مراكزه تركيا (حيث يتولى رموزه قيادة الدولة) ثم الولايات المتحدة الاميركية وبعض دول آسيا (الباكستان) وبعض الجاليات الإسلامية والعربية في أوروبا،
ومع وعي العرب خارج مصر بخطورة هذا التنظيم على النظام في مصر بالذات وارتكاباته عندما قفز إلى السلطة في لحظة قدرية ثم بعدما أخرجه منها رفض الشعب المصري عبر تظاهراته غير المسبوقة بأعداد المشاركين فيها وشمولها مدن مصر وأريافها جميعاً،
ومع وعي العرب ببعض الأخطاء التي ارتكبتها «حماس» وبعض قياداتها الفلسطينية، داخل غزة وخارجها، وبالذات خارجها،
ومع وعي العرب بخطورة الوضع في مصر، خصوصاً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وعمليات التخريب التي يرتكبها بعض الإخوانيين ضد المنشآت العامة والهجمات ضد العسكريين من رجال الجيش والشرطة،
مع كل ذلك فقد كان العرب، ولعلهم ما زالوا يأملون، أن تعيد القاهرة النظر في سياستها ليس فقط تجاه حماس بل أساسا تجاه إسرائيل،
ومع وعي العرب بالمآخذ الخطيرة التي سجلها المصريون، شعباً وسلطة، على سلوك قيادة حماس، خارج فلسطين وأحيانا داخل غزة،
ومع وعي العرب بأن مصر قد دفعت ثمناً باهظاً لبعض استخدامات الأنفاق خارج غزة وتحديدا في التخريب على مصر وفي الاعتداء على جيشها ومواطنيها،
مع ذلك كله فقد أمل العرب وما زالوا يأملون أن تميز القاهرة بين حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه وبينها حقه في الحياة فوقها بكرامة وأمان، وبين سلوك المخربين الذين لم يكونوا بالتأكيد جميعهم من الفلسطينيين أو من أهل غزة على وجه التحديد.
حرام أن يشن العدو الإسرائيلي الحرب على شعب فلسطين في غزة ثم تقف مصر تتفرج، وحين تتحرك تتقدم بوساطة ركيكة لا توقف الهجوم الإسرائيلي الوحشي بل تتبدى وكأنها تمنح الإسرائيلي فرصة إضافية للمضي قدماً في حربه الاستئصالية للشعب الفلسطيني في غزة وعمرانها وأسباب معاش أهاليها المحاصرين جواً وبحراً وبراً.
إن مصر بتاريخها وبدورها القيادي لأمتها وبتضحياتها في ميادين النضال من أجل تحرر العرب جميعاً في مختلف ديارهم، وبدورها الذي لا بديل منه في فلسطين وحماية شعبها، أقله في غزة، من وحشية الحروب الذي يشنها العدو الإسرائيلي مرة كل سنتين أو ثلاث سنوات، لا يمكن أن تتخلى في هذه اللحظة الحرجة عن هذا الشعب الذي يدفع ضريبة التخلي العربي وجموح المشروع الاستيطاني الإسرائيلي.
لطالما اعتبر أهل غزة أنفسهم «مصريين» بنسبة ما،
ولطالما تعاملوا مع مصر على أنها مصدر حمايتهم وتأمينهم من عدوانية عدوهم الإسرائيلي.
ومصر أكبر من أن تحقد، وأكرم من أن تحكمها ردات الفعل ويأخذها الغضب بعيداً عن أصالتها فتخلط بين أهلها وبين عدوهم ـ عدوها في الماضي والحاضر والمستقبل.