طلال سلمان
ها هو التاريخ يدور بالعرب، مرة جديدة، فيعودون إلى مناقشة هويتهم وأصولهم وأعراقهم وأنسابهم، في ضوء معطيات موقعهم الجغرافي هائل الامتداد ورسالة الدين الحنيف، الإسلام، التي شُرّفوا بها وفتحت لهم آفاق الدنيا ومجد السلطة في رحاب العالم لقرون عديدة، بنهاياتها المأساوية، التي جعلتهم مزقاً من البلاد الحاكمة بالجغرافيا والمحكومة بالهيمنة الأجنبية.
فقبل مئة عام أو أكثر قليلاً، ومع سقوط السلطنة العثمانية التي حاول سلطانها أن يكون خليفة فوقف «نسبه» غير الهاشمي، بل غير العربي، حائلاً دون ذلك، انتبه العرب إلى واقعهم المهين، ووجدوا من يحرضهم للنهوض ومواجهة العثمانيين باعتبارهم «استعماراً». فلا دولتهم هي دولة الإسلام، ولا سلطانها من النسب الشريف، ثم إنهم يعاملون العرب بالذات باستعلاء منفّر.
وحين وقعت الانتفاضة الدستورية في اسطنبول، في العام 1909، وجرت إعادة صياغة الحكم، كان الغرب الاستعماري يتقدم لوراثة السلطنة وممتلكاتها في «العالم العثماني» الفسيح، فأخذت «الولايات» الأوروبية تستعيد حريتها تدريجياً، بينما كان على العرب أن ينتظروا الحرب العالمية الأولى والانهيار الشامل للسلطنة كي يباشروا ـ جدياً ـ رحلة البحث عن التجسيد السياسي لهويتهم الأصلية في مختلف ديارهم، ولا سيما في المشرق العربي.
على أن الغرب، ممثلاً ببريطانيا وفرنسا أساساً، كان لديه مشروعه لهذا المشرق العربي، ممثلاً باتفاق سايكس ـ بيكو (1916) الذي وزع أقطار المشرق بين المستعمرين الوافدين بعسكرهم إلى المنطقة، بعدما كانوا قد مهدوا لذلك المشروع عبر نسج علاقات خاصة مع بعض الأعيان والزعماء المحليين. في حين تولت بعثاتهم التبشيرية وإرسالياتهم التعليمية إرساء قاعدة معلومات محترمة عن «السكان» بتوزعهم الديني بل الطائفي والمذهبي، مفرقين بين المسيحيين والمسلمين، ثم بين المسيحيين والمسيحيين والمسلمين والمسلمين.
فأما ركيزة المشروع الاستعماري الجديد، فلسوف تعتمد، بداية، على تحريض العرب ضد «السلطنة» واستعادة ملكهم المضيع (بصيغة عصرية للخلافة). هكذا اندفع الشريف حسين بن علي، ملك الحجاز، ينادي بالثورة العربية سنة 1915 مفترضاً أن حلفاءه سيمهّدون أمامه الطريق لاستعادة مجد الخلافة الضائع! ولم يكن البريطانيون بحاجة إلى أكثر من إعلان الشريف حسين «ثورته» التي تخاطب في الوجدان العربي المجد الضائع، فيخرج العرب على السلطنة ويندفعون إلى قتال الأتراك الذين صاروا الآن «مستعمرين»، طلباً للحرية.
.. ثم كانت معاهدة سايكس بيكو 1916 التي توزع فيها البريطانيون والفرنسيون أقطار المشرق العربي بالعدل والقسطاس: لبنان وسوريا لفرنسا، وفلسطين مع الأردن (أو بعض البادية السورية) والعراق لبريطانيا، التي كانت أصلاً تضع يدها على الخليج العربي وتمد نفوذها إلى ما سيكون بعد سنوات قليلة «المملكة العربية السعودية» بعد تمكين عبد العزيز آل سعود من الانتصار على الشريف حسين وطرده، فينفيه البريطانيون (بعدما أدى ما عليه!) إلى قبرص حيث مات فيها.
لن تكتمل الخريطة المقررة للمشرق العربي إلا مع وعد بلفور (1917) الذي أعطى من لا يملك (البريطاني) لمن لا يستحق (اليهود ممثلين بالحركة الصهيونية) فلسطين لتكون وطناً قومياً لليهود!
في هذه الأثناء، كان الرواد من المفكرين والكتاب يعيدون إحياء الهوية العربية، متحمّلين الاتهامات بأنهم بهذا الكشف إنما يخدمون الاستعمار الغربي في جهده لتدمير «دولة الإسلام» ممثلة بالإمبراطورية العثمانية.
وكان طبيعياً أن تتوالى الانتفاضات ضد الاستعمار الجديد فكانت «ثورة العشرين» في العراق التي انتهت بخروج شيعته على حكم الدولة الجديدة، برغم تنصيب فيصل الأول (ابن الشريف حسين) ملكاً عليها. بينما تم استرضاء شقيقه عبد الله بإمارة على شرقي الأردن (ستُكتشف أهميتها للمشروع الإسرائيلي في مقبل الأيام). وتوالت الثورات والانتفاضات في سوريا رفضاً لتقسيمها إلى أربع دول على قاعدة طائفية ـ مذهبية (سنة وعلويون ودروز). في حين رسم للبنان كيان جديد يضم إلى «المتصرفية» التي كانت قد أنشئت بعد فتنة 1860 (على قاعدة طائفية) أجزاء من ولايات عثمانية سابقة، أو ما يسمى لبنانياً (الأقضية الأربعة ـ أي الشمال والجنوب والبقاع وبيروت) وهي التي تضم أكثريات إسلامية (سنية وشيعية).
عبر هذه التطورات جميعاً كانت فكرة «العروبة» تتبلور وتكتسب مضمونها السياسي المرتكز إلى أن هذه الهوية ضاربة في أعماق التاريخ، على اختلاف مراحله وطبيعة الحكام في ظل «الخلافة» التي كانت قد ماتت سريرياً.
برز المفكرون والكتاب والأدباء، وبينهم كثير ممن احترفوا الصحافة، بل لعلهم قد اقتحموا عالمها الجديد. وكانت «الطليعة» في غالبيتها من «الشوام»، لبنانيين وسوريين، ولأنهم من «رعايا» مناطق تخضع ـ كلياً أو جزئياً للسلطنة ـ فقد وجدوا في القاهرة الملجأ والمنطلق للتبشير بدعوتهم إلى العروبة.
هكذا، ظهرت في القاهرة «دار الهلال»، بروايات جرجي زيدان التي تشكل محاولة لإعادة كتابة التاريخ بأسلوب روائي، ثم بمجلة «الهلال» الثقافية الشهرية، وصدرت معها في أواخر القرن التاسع عشر مجلة «المقتطف» ثم مجلة «المقطم»، بينما كان عبد الرحمن الكواكبي القادم من حلب يقوم بمحاولة إعادة كتابة التاريخ متحرراً من ظل الهيمنة العثمانية.
في المقابل، أخذت تطل محاولات لإنشاء أحزاب سياسية تدعو إلى استعادة الهوية الأصلية للمنطقة وأهل «العروبة». وشهدت بلاد الشام خصوصاً، في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، حركة فكرية نهضوية واسعة، واضحة بمضمونها السياسي وإن تعثرت تجاربها الحزبية. وقد تعززت السياسة في هذه الحركة مع الاطلاع على معاهدة سايكس ـ بيكو، ثم على «وعد بلفور»، إذ تأكد عرب المشرق، خصوصاً، أنهم مستهدفون في وحدة بلادهم كما في هويتهم، وبالتالي في مستقبلهم بمشاريع لتقسيمهم دولاً بلا مقومات للحياة، تضرب مشروعهم الوحدوي، وتخلق صراعاً حول سلطات وهمية في دول غير قابلة للحياة، ما يمهد للمشروع الإسرائيلي الذي كان العمل جارياً على تحقيقه فعلياً، فوق أرض فلسطين.
في أواسط الثلاثينيات ظهر «الحزب السوري القومي الاجتماعي» منادياً بوحدة «الهلال الخصيب» الذي يضم لبنان وسوريا والعراق والكويت ومعها قبرص، بوصفها نجمة «الهلال». في الأربعينيات أعلن في دمشق عن قيام «حزب البعث العربي الاشتراكي» منادياً بوحدة عربية شاملة تضم بلاد العرب جميعاً في ما بين المحيط والخليج. وفي أعقاب نكبة فلسطين، توالى ظهور التنظيمات السياسية الوحدوية وقد أعطتها فلسطين التي احتلتها القوات الصهيونية الوافدة من الغرب، بتغطية دولية شاملة، الشعار والهدف: توحيد الأمة لمواجهة مخاطر ضياع فلسطين واجتياح الأمة جميعاً، وكانت «حركة القوميين العرب» أبرز هذه التنظيمات.
على أن الصراع على السلطة في بلاد الشام، بعد نكبة فلسطين، وتحت شعارات العودة إلى الميدان لتحرير الأرض، أخذ معظم هذه الأحزاب إلى متاهة فكرية وسياسية، سرعان ما دخل إلى حومتها العسكر، فانتهى الأمر بأن آل الحكم إلى الجيش في سوريا، ثم في العراق. وكان الأردن المستفيد الأعظم من النكبة، إذ تحولت الإمارة إلى «مملكة» بعدما ضم الأمير عبد الله الذي غدا الآن ملكاً على الأراضي الفلسطينية التي أرجأت إسرائيل احتلالها إلى وقت آخر. وكان القائد الذي أشرف على بناء الإمارة ثم المملكة على قاعدة عسكرية صلبة هو الجنرال البريطاني الأصل غلوب، والذي منحه «الملك» لقب الباشوية تقديراً لإخلاصه.
في هذا السياق تطل القاهرة كحاضنة فكرية ـ سياسية، ثم بعد «ثورة 23 يوليو» 1952 كمشروع قيادة لإعادة صياغة المشروع القومي العربي، خصوصاً أنها استحقت القيادة بالجدارة بعد صمودها للعدوان الثلاثي خريف 1956، ثم بعد دخولها المعترك السياسي العربي (المشرقي) بقبولها «اللجوء السياسي» لسوريا في دولة الوحدة: الجمهورية العربية المتحدة، التي لم تعمر مع الأسف إلا ثلاث سنوات ونصفاً.
من المنطقي الافتراض أن فكرة العروبة وتجسيداتها السياسية تلقت ضربات قاتلة عبر فشلها في مواجهة المشروع الإسرائيلي، ثم في عجزها عن حماية فكرة الوحدة وقد تحولت إلى «دولة نواة» عبر الجمهورية العربية المتحدة التي جمعت سوريا إلى مصر.. ثم توالت الضربات عبر هزيمة 1967، ثم عبر طي صفحة الصراع ـ أقله عسكرياً ـ مع العدو الصهيوني، بعد توقيع السادات معاهدة الصلح مع إسرائيل، ثم لحق به الأردن، ومن بعده «منظمة التحرير» التي كانت قد أخرجت ـ بقواها العسكرية ـ من الأردن وسوريا ولبنان. وقد كانت بيروت المحطة الأخيرة لهذه المرحلة من النضال الفلسطيني الذي «استقل» عن سائر «العرب»، بعدما استقل نظام كل منهم بقراره. فإذا الأمة تعود إلى خانة الأحلام، وإذا القرار يعود ـ مرة أخرى ـ إلى دول القرار في الغرب، بالقيادة الأميركية التي ترسم لنا طائراتها الحربية المتجولة في سماء المشرق العربي، بذريعة قتال «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ملامح المستقبل العربي.. خارج العروبة، وربما خارج الإسلام أيضاً.