كنت فتى غراً حين تسلقت بعض الصخور في محلة الروشة لأسمع العلامة الشيخ عبد الله العلايلي يطلق صوته الجهوري بالدعوة لإسقاط النظام السياسي، من على منبر المعارضة الوطنية المتلاقية بفصائلها المختلفة تحت راية الانتصار بانتهاء حكم الفساد ممثلاً بالرئيس الأول لدولة الاستقلال: الشيخ بشارة الخوري.
كان فكر العلامة أعلى من صوته الجهوري الرنان، ولغته أعلى مستوى من قدرة الجمهور على استيعابها وإن هو أدرك مضامينها ومراميها السياسية، ليس فقط بالسليقة بل أساساً بسبب من معرفته بمواقف هذا الشيخ ـ القائد الجليل، الذي لا ينحني لطاغية ولا ينكسر أو ينسحب من مواجهة الغلط.
من موقعي فوق الصخرة استمتعت برؤية عمامته البيضاء ويمناه وهي تمتد من كُم جلبابه الأسود بتناغم مع كلماته ذات الرنين الموسيقي المنشي.. وكذلك بتفاعل الجمهور الذي يهتز ويتماوج ثم يصدر عنه ما يشبه الهدير تعبيراً عن الإصرار على الموقف مختلطاً بالتقدير العالي للخطيب ـ القائد المعمّم، حتى وإن أشكل عليه فهم بعض الكلمات مكتفياً بالتقاط المعنى.
... ولسوف تمضي سنوات قبل أن يتيسر لي أن ألتقي العالم الجليل ذا الفكر المشع نضجاً واستيعاباً لروح العصر ولدلالات اللغة بعمقها القرآني وشمولها الإنساني. وأعترف أنني ذهبت إليه، أول مرة، متهيباً، لأجري معه حديثاً في السياسة، وأنا محرر يبحث عن الطريق الى الصح في مهنة يمكن توظيفها لأغراض ومصالح ربما كانت تتناقض مع "رسالتها". ولقد نصحني وطلب إليّ أن أصبر حتى أتمكن، والتمكّن يكون بالمعرفة والمزيد من المعرفة، فالموقف وحده ومهما كان صادقاً ومعبراً عن ضمير الشعب لا يكفي، بل لا بد من المثابرة. قال: "الصحافي الحق ليس مجرد مخبر يزود الناس بما خفي عنهم من معلومات، علماً بأن الإخبار أمانة وبالتالي يجب أن يكون دقيقاً، بل إن الصحافة رسالة فإن هي حادت عن طريق الحق والحقيقة غدت وسيلة ترويج للانحراف والتيه في بحر المعلومات المتضاربة التي تهدف إلى ضرب اليقين".
أما في السياسة فقد أمرني أن أقرأ كثيراً وأكتب قليلاً، وألا أصدق السياسيين في كل ما يقولونه.
وفي ختام الزيارة أعطاني رقم هاتفه وقال: لا تتردد في طلبي في أي وقت. فخدمة الحق والحقيقة واجبي كما هي واجبك.
ثم أضاف ضاحكاً: .. وأنا مثلكم أسهر، فأقرأ كثيراً وأكتب قليلاً، وأعلم أن لغتنا بحر بلا ضفاف، هي لغة الشعر والوجدان، وهي أيضاً لغة العلم، ثم إنها طيعة تستوعب الاكتشافات الجديدة وليست جامدة، كما يصورها من لا يعرفها.
عشية إصدار "السفير" ذهبت إليه بطلب رعايته، وكان معي بعض الأعداد التجريبية، فقال مرحباً: سأكتب لكم، ليس في اللغة وآدابها والعلوم فحسب، بل في السياسة أيضاً، فليست السياسة هي المناورات والتكتكات والحيل والمخادعات التي يلجأ إليها محترفو العمل السياسي، بل هي رسالة إنسانية سامية إذا أخلص في أدائها من يتصدون للعمل العام بهدف خدمة الناس.
وعند الباب أضاف بلهجة تطفح وداً: أكرر أنني أسهر مثلكم، وإن اختلف موضوع السهر. أنا أكتب ليلاً، وقد يطل عليّ الفجر وأنا أعمل، ولن يزعجني أن أجيب على أي سؤال يتعلق باللغة أو بالمضمون السياسي لما تكتبون.
بعد صدور "السفير" بأيام فرحت باتصاله مهنئاً: مبارك لكم النجاح.. إنها صحيفة واضحة الخط، صحيحة اللغة بشكل عام...
قاطعته قائلاً: لولا بعض الهنات الهيّنات...
ضحك وهو يقول: على أن لغتها أفضل من العديد من الصحف. والأستاذ الياس الحويك الذي يكتب زاوية "قل ولا تقل" هو عالم مميز في اللغة وسطوره القليلة تنفع في استدراك الكثير من الأخطاء وأظن أن شقيقه البطريرك الحويك ضليع مثله في المعرفة بأصول اللغة. في أي حال، لا توفرونني إذا ما احتجتم إليّ وأنا جاهز دائماً.
... ولطالما أقلقنا راحة هذا العلامة في ليالي الحرب الأهلية لنسأله عن الصح في اللغة بينما الأخطاء في السياسة تجتاح البلاد وأرواح العباد.
بين فترة وأخرى كان يدعوني، ثم أخذت أدعو نفسي بعد اتصال معه لزيارته في بيته في منطقة البطريركية، والاستماع إلى آرائه في الأحوال العامة وصورة المستقبل في تقديره.
كانت غرفة الجلوس بسيطة الأثاث. وكان يجلس، في العادة، أرضاً على "طراحة"، وقد ارتدى ثياباً بسيطة، وتخلى بطبيعة الحال عن العمامة التي تجلل رأسه، بل يجللها رأسه، ومن حوله عباقرة العرب من المؤرخين والفقهاء والرحالة والباحثين، ومختارات من كتب تراثية أو إصدارات لمفكرين وفلاسفة غربيين كبار.
كنت أجلس إليه تلميذاً ينهل من جامعة رفيعة المستوى، ومن مرجع فريد في الثقافة والعلوم الإنسانية، ومن عاشق مميز للغة الضاد التي أعطاها بعض عمره، فكان حارساً أميناً لصحيحها دؤوباً على حمايتها من العجمة واللحن والتحريف.
وكنت أخرج من لدنه يغمرني شعور بالزهو: لقد أعطاني من وقته الثمين أكثر مما طلبت، فأغنى ذائقتي، وأضاف إلى معارفي كثيراً، خصوصاً وهو يكشف مكامن الجمال في اللغة العربية، وقدراتها غير المحدودة على استيعاب العلوم والمعارف.
كان العالم فيه يتداخل مع عاشق الضاد: هذه اللغة استطاعت أن تستوعب كل ما أنتجه العقل الإنساني باللغات الأجنبية السابقة على بعث الرسول العربي محمد وعلى انتشار الإسلام وعماده القرآن الكريم، الذي حفظ هذه اللغة التي باتت ـ معه ـ تتسم بقدر من القداسة فحماها من دون أن يمنع إغناءها بالجديد المتناسب مع العصر... ولأنها لغة ذات قواعد راسخة ومتانة مع مرونة في الاشتقاق وتقبّل المستحدث الملبي للاحتياج مع تبدل العصور وتزايد المبتكر والجديد من منتجات الحضارة الإنسانية، فقد ظلت لغة معاصرة.. بل إن عندها فيضاً من الحيوية يؤهلها لأن تكون لغة الغد أيضاً.
أما في السياسة فقد كان هذا العلامة المجتهد صاحب فكر تقدمي يرفض الظلم والتبعية، يرفض الإقطاع وتحكم رأس المال، يقدس الجهد الإنساني ويرى أن من حق الناس الثورة لنيل حقوقهم في وطنهم وكذلك حقوقهم كمنتجين على أرباب العمل... وبطبيعة الحال فقد كان ضد الاحتكار والاستغلال، يطلب للمنتج حقه، خصوصاً وأن هذا الجهد بالفكر أو بالعمل هو الأساس في التقدم الذي يحمي الشعوب ويحصنها في وجه الاستعمار الأجنبي وقوى الاحتكار والاستغلال الداخلي، الذي يراه أبشع من الهيمنة الخارجية يمهد لها ويجعلها في مقام الضرورة.
لقد كان منارة فكرية تتجاوز بإشعاعها لبنان إلى الدنيا العربية الواسعة، وتمتد إلى العالم الإسلامي كافة.. كما أنه برغم ثقافته الشاملة أو كنتيجة لها ظل يتابع حتى يومه الأخير حركة الأفكار في العالم الغربي والجهد الإنساني في التجديد وفي اقتحام المجهول وفي الابتكار والاكتشافات العلمية.
قال لي ذات مرة: يسعدني اتصالك أو بعض زملائك، وأحياناً في وقت متأخر من الليل، لأنه يعكس حرصكم على تجنب الخطأ.
صمت لحظة ونظر إليّ طويلاً بعينيه الصغيرتين ـ الثاقبتين: أبشع الأمور الخطأ. الخطأ فضيحة تكشف ليس فقط سوء التقدير بل أساساً غش الناس ومخادعتهم بإخفاء الحقيقة.
الإنسان خطّاء، لكن ميزته أنه ينتبه إلى الخطأ فيستدرك مصححاً ومعتذراً. وبين مشاكلنا، على المستوى السياسي كما في حياتنا العامة واجتماعياتنا محاولة التغطية بالكذب أو بإنكار ارتكاب الخطأ ورمي المسؤولية على نقص المعرفة عند الآخرين.
صمت قليلاً ثم استدرك فقال: إن حياتنا السياسية مجبولة بالكذب، من هنا فلا مجال للتغيير إلا بالثورة، والثورة مستحيلة في مجتمع مشبع بالطائفية إلى حد الانقسام بل التشظي... فما تراه صحيحاً قد أنكره مكابراً لأنك مختلف... أما العلم فلا يعرف الكذب أو النفاق أو المجاملة. واللغة علم، ترفض المخادعة والتحايل. قد تسمح بالتورية، كما تسمح بالاشتقاق والإدغام والابتكار من داخل أصل اللغة، لكنها ترفض الدخيل والمزوّر والمشتق من أصل هجين.
تنهّد بحرقة ثم أضاف: ولعل طبيعة الحياة السياسية وسلوك السياسيين هذا بين أسباب أخرى كثيرة هو ما صرفني عن السياسة. ولقد رأيت أن أنصرف إلى ما ينفع الناس في حاضرهم كما في مستقبلهم، ويحمي وجدانهم بحماية لغتهم التي وحدها بين لغات الأرض تتميز بالقداسة، وهكذا تراني أسعد الناس بإنتاجي في مجال اللغة وتوكيد قدرة العربية على أن تكون في العصر وأن تستقبل إنجازاته ومبتكراته، فقط إذا اهتم بها أبناؤها فحفظوها وقد حفظت دينهم ووجدانهم وثقافتهم وأهّلتهم ذات يوم لأن يكونوا بين المبدعين والمجددين في الحضارة الإنسانية.
بجلباب بسيط، ونمط حياة في غاية التواضع، وفكر متوقد، وشغف بالعلم رافقه حتى آخر نفس، وبإخلاص لما يؤمن به عرّضه لكثير من الإشكالات والمشاكل مع الطقم السياسي وجعله يبتعد عنه إلى ما ينفع الناس ويحمي وجدانهم من الزيف ولغتهم من الهجانة والتغريب الذي يسيء إليها من دون أن يوصل المعنى.
اليوم، في ذكراه التي كادت تطمسها الحروب ضد الذات، ننتبه إلى أن هذا المبدع والمجتهد والذي أفنى عمره في حفظ وجداننا قد أعطانا الكثير ولم يأخذ حقه من التكريم، وتكريمه الفعلي يكون بحماية الوجدان من مشوّهيه، وبينهم أو في طليعتهم مَن يشوّه اللغة ويحقّرها بالحذف أو بتغليب العامية في الكتابة، فضلاً عن الهرب إلى اللغة الأجنبية بذريعة أن اللغة العربية عاقر، وهو العاقر.
رحم الله هذا العالِم العلاّمة في الثقافة وهذا المجتهد المميز في حماية الوجدان.