طلال سلمان
رحل الذي ليس كمثله أحد: جورج جرداق..
رحل العاشق حتى النفَس الأخير، المقبل على الحياة بشغف المسحور بنعمتها، الشاعر الرقيق كنسمة، الباحث الذي أغنى المكتبة العربية بعطائه المتدفق ثقافة ومعرفة، الظريف بغير تكلّف، الساخر بالسليقة، الشاب الممتلئ حيوية حتى وثمانينه تتوكأ على عصاه، المتعبّد للجمال، اللبناني ابن مرجعيون الذي كاد يكون فلسطينياً بالموقف وليس بالعاطفة وحدها، المصري الذي دخل القاهرة ثم لم يغادرها ولم تغادره وقد سكن صوت أم كلثوم بألحان محمد عبد الوهاب فجمع المجد من أطرافه. كما غنّى بعض قصائده وديع الصافي ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي، وغنّى من بعض الكاريكاتير في شعره فيلمون وهبي.
الموسوعي الذي عشق علي بن أبي طالب فكتب سيرة «الإمام» وخطبه وأقواله في خمسة مجلدات ثم أضاف سادساً، وكاد يتفرغ لهذا الحكيم الممتلئ ثقافة ونوراً.
الكاتب المفرد بأسلوبه، الساخر من كل الناس وفي الطليعة شخصه، الذي لم يتعب من إنتاج المميّز فكراً وشعراً وتعليقاً يمتزج فيه الكاريكاتير بالودّ فلا يكاد «الضحية» يغضب حتى يغلبه التسليم بما قيل فيه حتى لا يقول «الجرداق» فيه أكثر.
ولقد كان من حظي أن عاصرت الظريفين سعيد فريحة وجورج جرداق فضحكت معهما على الناس جميعاً، فإذا انصرف أحدهما أضحكني الثاني من «منافسه» وهو يتلفت من حوله ليأمن أنه لا يسمعه.. وبقيت بعد مغادرتهما حتى أخرج سليماً!
لم يكتب أحد بغزارة جورج جرداق، من دون أن يسِفّ، هو الذي لم يتعب من إنتاج المميّز، ومن التعليق السيّار والذي كان يرميك بصداقته فيأسرك، وبظرفه فيكشف عيوبك بعينيه الصغيرتين... أما إذا حضرت امرأة فمن الأفضل لك أن تغادر وإلا رماك بقصيدة هجاء جذبت إليه الجميلة وهي تضحك منك!
أمس، انطفأ مصباح مرجعيون فحزن الشعر وأخلت الطرافة والظرف والإيناس موقعها في وداع هذا الكبير من بلادي الذي كان مفرداً في عصره.