طلال سلمان
دماء كثيرة تغطي، هذه الأيام، الأرض العربية، مشرقاً ومغرباً، في ظل شعارات «الثورة» وإسقاط أنظمة الطغيان والتطلع إلى أفق الديموقراطية واللحاق بالعصر.
ولقد سقط ما سقط من الأنظمة، لكن صورة النظام الجديد المطموح إليه، والذي كان الهدف من «الثورة» وتفجر «الميدان» بالغضب وشعارات من نوع «إرحل» و«الشعب يريد إسقاط النظام»، لم تتبلور بعد. وبالتالي فقد بقيت صورة «الدولة» شاحبة، في حين تبدت «الثورة» مأزومة، لا قيادتها معروفة التاريخ الذي يستولد الأمل، ولا برنامجها ليوم غد واضح ومحدد، ولا علاقتها بجماهير «الميدان» قائمة على قاعدة سياسية مؤكدة المنهج بخريطة طريق تمنع الضياع.
ومع استثناء محدود وغير مطمئن لتجربة عهد ما بعد الانتفاضة بشعار «إرحل» في تونس، فإن سائر الانتفاضات ما تزال تبحث عن هوية سياسية واضحة، وسلطاتها المؤقتة ـ حيث أمكن إقامة سلطة جديدة باسم «الميدان» ـ تخاف من تحديد هويتها ومنهجها في معالجة المشكلات المعتقة والتي تشمل المجتمع بمختلف مكوناته وقضاياه السياسية والاقتصادية والثقافية.
لقد «أسقط» الميدان الذين حكموه بمفاهيم ماضي الطغيان الفردي من فوق قمة السلطة. لكن «الميدان» مجاميع من الثوار والراغبين في التغيير، يجمعهم الطموح إلى الديموقراطية والى «الخبز مع الكرامة» والى التقدم، ويضعف اجتماعهم أنهم بلا خطة أو برنامج مشترك ينطلق من فهم لواقع مجتمعاتهم ليرسم صورة الغد والطريق إليه بالقدرات الذاتية.. ومن دون المراهنات على «دعم من الخارج» سواء على المستوى السياسي، أو خاصة على المستوى الاقتصادي ـ الاجتماعي.
إن «الدول»، ولا سيما الغنية منها بثرواتها النفطية، ليست جمعيات خيرية توزع عطاياها على المحتاجين كالتزام أخلاقي بموجبات الإخوة، أو حتى من ضمن رؤية إستراتيجية على قاعدة أن «الكل واحد» في مواجهة الأعداء أو الخصوم المشتركين، في الخارج والداخل.
ثم إن هذه الدول العربية الغنية ليست موحدة في موقفها من الانتفاضات وأهلها... فقطر، على سبيل المثال، اندفعت بلا تبصر، وبرغبة دفينة في التعويض عن ضآلة عدد سكانها قياساً إلى ثروتها غير المحدودة، والتي من هواء، تحاول تعزيز موقع كل من رفع الشعار الإسلامي مع ترجيح لتنظيم «الإخوان» حيثما وجد. وهكذا فقد أسهمت في تفجير حرب أهلية في ليبيا، ستبقى مفتوحة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.. خصوصاً أنه كان من البديهي أن ينهار ما تبقى من الدولة المركزية، وأن يستعاد ـ كاريكاتورياً ـ تاريخ المملكة الاتحادية السنوسية. ونتيجة غياب القيادة والتنظيم الجامع، وتهديم ما كان تبقى من دولة القذافي، فقد صارت ليبيا مصدراً لخطر محقق على جيرانها، وبالتحديد مصر، عبر الصحراء الغربية، كما في سيناء عبر السودان، ثم تونس وصولاً إلى الجزائر والسودان (من دون أن ننسى غزة..) حيث تنشط تجارة السلاح بأنواعه كافة، الثقيل والأثقل وصولاً إلى الصواريخ بعيدة المدى.
..ولتونس من «الدعم» القطري نصيب كاد يذهب بالائتلاف السياسي بين مختلفين..
أما السعودية والكويت ودولة الإمارات فقد اتخذت موقفاً متعقلاً بشكل لافت، إذ بادرت إلى إظهار قدر من التعاطف مع آخر تجليات الانتفاضة في مصر.. بل وسارعت إلى لقاء المشير عبد الفتاح السيسي مؤيدة، ثم أعلنت عن تقديم مساعدات مالية وقروض ائتمانية لمشروع الحكم الجديد، مفيدة من «غموض» موقفه سياسياً (بين المعسكرات) واجتماعياً (بين الطبقات).. بينما انسحبت تماماً من ليبيا وجزئياً من تونس لتتفرغ لحربها الضارية ضد نظام الحكم في كل من سوريا والعراق، مع جهود لحماية النظام المرتجل لليمن.
لقد جاءت الانتفاضات متتابعة، وصاعقة أحياناً. لا الأنظمة كانت تتوقعها، برغم الأجهزة الأمنية الكثيرة القائمة على حمايتها، ولا جماهير الانتفاضة كانت تعرف إلى أين تتوجه بعد إسقاط النظام، حيث سقط، وكيف تمنع سقوط الدولة وتمزيق الشعب حيث أُنهكت وأنهكت معها النظام، فاستمر الصراع غامض الهوية بين عاجزين عن تصور الغد الأفضل والطريق إليه.
ها نحن أمام أقطار تكاد تضيع، بينما أنظمتها تقاوم السقوط، غير مهتمة بانهيار الدولة وتفككها وتصدع الوحدة الوطنية لشعبها.
وفي غياب السياسة كان طبيعياً أن تتكشف الهويات الطائفية لكل من السلطة ومعارضاتها فينقلب الصراع من سعي إلى إسقاط النظام الديكتاتوري إلى فتنة طائفية صريحة أو مموهة، تجد من يمولها ومن يمدها بالسلاح الخفيف والأثقل، مع التلويح بفتح الأجواء لصواريخ مضادة للطائرات.. وغالباً تحت تبريرات طائفية، وإن موهتها ادّعاءات نصرة الديموقراطية من طرف من لم يعرفوها.
وهكذا تتحول الثورة أو الانتفاضات، تدريجياً، إلى مشروع حرب أهلية مفتوحة، في ظل شعارات طائفية تستعيد وقائع الماضي الأسود لدول الطوائف عبر فتنة مفتوحة تغرق البلاد بدماء أهلها وتلغي السياسة تماماً.
وحيث الأكثرية الساحقة إسلامية وتتبع مذهباً واحداً، كما في ليبيا وتونس، فإن القبيلة تتقدم مفيدة من سقوط الدولة المركزية لتفرض منطق التقسيم ولو غلفته بالفيدرالية.
أما حيث ينقسم الشعب بين طائفتين إسلاميتين، سُنة وشيعة مثلاً، فتتوارى شعارات الاعتراض السياسي على النظام، لتعلو الأصوات بطلب الانفصال على أساس مذهبي، موسعة هامش التدخل أمام الدول قريبها والبعيد.
إن اليمن مهددة بوحدتها، والنبرة الانفصالية ذات الشعار السياسي تستبطن مطلب الاستقلال لهذه الطائفة أو تلك... فإذا ما أضفنا «الصراع التاريخي» بين القبائل، وحقيقة أن فكرة الدولة المركزية حديثة ـ بل وطارئة، وقد قامت بالفرض بديلاً عن دول «الإمام» و«السلاطين» من شيوخ القبائل ممن كان لكل منهم إقطاعيته، أمكن أن نتخيل النتيجة: يمن بدويلات قبلية عديدة متهالكة ومقتتلة.. ولا دولة!
والعراق قد انشطرت دولته بالفيدرالية ذات القاعدة العنصرية إلى مشروع دولتين يحوم فوقهما شبح الاشتباك الذي قد يتجاوز التقسيم السياسي إلى الانفصال العدائي، في حين أن «الأكثرية العربية» تكاد تغرق في الفتنة.. لأن التنافس بين القوى والمرجعيات يستبطن دولاً شتى، تموه الصراع السياسي في ما بينها باستعادة تاريخ «الفتنة الكبرى».
كذلك فإن سوريا التي تفسخت دولتها، وخرجت منها وعليها محافظات عدة، فإن صمود نظامها لا يعني بالضرورة حماية دولتها المركزية.
ومع أن السوريين عُرفوا بصلابة وحدتهم الوطنية التي تحصنهم في وجه الطائفية إلا أن الحرب الأهلية - الدولية التي فرض عليها أن تعيشها تحت شعار الاعتراض على النظام قد أنهكت الدولة المركزية وضربت وحدتها.
إن المستقبل السياسي للأرض العربية يكتب بدماء أهلها، مع غياب القدرة على استيلاده بما يلبي طموحات شعوبها... بل إن المخاوف على البلاد تكاد تتفوق على الخوف على الانتفاضة في أكثر من دولة.
وأهل النظام الدكتاتوري الذي أسقطه «الميدان» ما زالوا من القوة بحيث يمكنهم التخريب... وليس ثمة ما يمنعهم، في ظل فوضى الشعارات وغياب معايير ترجيح الصح على الغلط، من أن يلبسوا لبوس الثوار ويشقشقوا ألسنتهم بالشعارات لتزخيم الفوضى الفكرية بحيث يفقد المواطن القدرة على التمييز بين حماة غده ومخربي حاضره الذين يريدون للبلاد أن تظل أسيرة ماضي سيطرتهم بالفوضى الآخذة إلى التيه.
وليس من منقذ إلا بعودة الروح إلى «الميدان»، وإلا تلاقي أهل الانتفاضة على مشروع نهوض وطني يجمع ولا يفرق، ويقوم على قاعدة برنامج يجمع الإمكانات والأهداف، ويصلب الوحدة الوطنية ويكشف المزايدين، في الداخل، ويعطل بيع الثورة وميدانها بالمزاد العلني والمناقصة السياسية.. وهذا كله لمصلحة الخارج.