طلال سلمان
إنه لشرف عظيم أن أقف أمامكم خلف هذا المنبر الذي اعتلاه قبلي بعض أساتذتنا الكبار، وبينهم من لهم أدوار مميزة في نهضتنا القومية وفي تكوين وعينا بأنفسنا وبموقعنا بتاريخنا وبأهليتنا لان ندخل عصر التقدم الإنساني مزوّدين بالعلم والكفاءة والثقة بقدرتنا على صنع الغد الأفضل.
وأخاف على نفسي من الغرور إذا ما أُدرج اسمي، غداً، في قائمة الذين تعاقبوا على هذا المنبر وقد نقشنا أسماءهم على شغاف قلوبنا، قبل الذاكرة وبعدها، لدورهم في النهضة وتأكيد جدارتنا بدخول العصر.
إن بعض الأمكنة تدخل الوجدان وتستقر فيه بفضل من منحها جدارة أن تكون بعض تاريخ مدينة كبيروت ـ الأميرة التي كانت وستبقى مكتبة العرب، مدرسة ناشئتهم وجامعة شبابهم، مصيفهم ومشتاهم، مقهاهم وصحيفة الصباح.
و«المدرسة الأهلية» واحدة من معالم هذه المدينة المتألقة حتى في أوجاعها، المتفردة في دورها الثقافي والحضاري بكل ما أعطت من الكفاءة والثقة بالنفس لأجيال من بنات العرب، وضمنهن اللبنانيات ... ثم بصمودها الذي انتصرت به على الحروب التي عبرتها وعبرت بها فازدادت منعة وثقة بدورها التنويري الذي تجاوز حدود لبنان إلى محيطه العربي.
ثم إن حظي أسعدني بشرف الزمالة في مهنة الصحافة مع الروائية المبدعة اميلي نصرالله التي مكنها أن تكونا أماً لأبناء الحياة جميعا، كما أخذها الحب إلى رعاية «طيور أيلول» من شباب مبدعين قصة ورواية وشعراً وأبحاثاً، وبلغات عدة.
كما عرفت عن بعد ونتيجة للتقدير والاحترام قبل النسب الأستاذة نجلا حمادة التي شعرت من كتابتها عن «الأهلية» بنبرة اعتزاز ندر أن رافقت كتابة تلميذة عن مدرستها، فضلاً عن قوة شخصيتها وعن أسلوبها الممتاز في البحث والدراسة.
وأخيراً وليس آخراً فقد حرّضني الصديق عبدالله بو حبيب على اقتحام حفلكم هذا ثم تركني وحيداً ليذهب إلى ملاعب صباه وسفارته في واشنطن.
أعترف بأنني حاولت أن أبدأ الحديث عن المدرسة الأهلية فأطيل فيه حتى لا أتوغل في حديث المواجع عن حرية الصحافة لمناسبة يومها العالمي، كما عن حرية التعبير، ولكن من حدد موضوع هذه الندوة زجرني فالتزمت.
وأعترف بأنه كان أسهل عليّ أن أتلو بنبرة الفخر كلمة فخمة العبارة عن حرية الصحافة، لا سيما في لبنان، ومعها حرية التعبير. ولكنني أكره النفاق والمفاخرة بالأساطير وادعاء البطولات الفارغة.
ذلك أننا في وطن صغير استثنائي النظام بين شعارات طبقته السياسية، حاكمة ومعارضة: قل ما تشاء ولكننا سنفعل ما نشاء.
بهذا المعنى فحرّية التعبير مطلقة نظرياً، ولكن حرية القرار في مكان آخر.
والصحافة كما تعلمون، ليست فقط حرفة الكتابة، وليست فقط البراعة في اختيار الموضوعات، وليست فقط الشجاعة في نقد الأخطاء، الصحافة في بعض وجوهها صناعة. ولأننا لا نكتب على الماء فلا بد من مطابع ولا بد من أسرة تحرير ولا بد من ورق وأجهزة حديثة ومكلفة أحالت الأقلام إلى التقاعد ومعها الكثير من تقاليد المهنة.
الصحافة أيضا صناعة. لكي تصلك الصحيفة فلا بد من شركة توزيع، ولا بد من مكتبات وباعة.. وكل ذلك بالثمن.. والثمن زهيد والكلفة عالية ولا توازن بين الكلفة وسعر البيع. والإعلان احتكارات ومعظمه يأتي من الخارج. والخارج مؤسسات ذات مصالح ودول ذات مطامح، حتى لا نقول مطامع. والداخل هش، يمكن للخارج أن يخترقه بغير جهد كبير. فالداخل دواخل، والدواخل طوائف ومذاهب. والطوائف مصالح ودول. والدول مطامع وأغراض.
بالأمس، كنا نحتفل بعيد شهداء الصحافة بعدما اختصر بهم شهداء الوطن جميعاً. كان المنظر لمن تابعه موجعاً: عشرات ممن منحتهم نقابة الصحافة دروعاً تكريمية من خشب لمناسبة تجاوزهم الخمسين عاماً في المهنة يثيرون الشفقة: هامات منطوية على ذاتها، يرف عليها بؤس الحال وأثقال الشيخوخة والوحدة.
إن صحفنا تتهالك وتكاد تفقد مقوّمات وجودها، ليس فقط بسبب اكتساح وسائل الاتصال الحديثة الآفاق ونفاذها إلى الناس صغاراً وكباراً، رجالاً ونساء، طلبة وفلاحين، عمالاً وأصحاب معالي، فحسب، بل أساساً لاندثار السياسة والعمل الوطني ذي العمق القومي وتهافت الأحزاب السياسية إلى حد الاندثار، وتردي أحوال النقابات التي أصبحت كل واحدة منها لصاحبها من أقطاب الطوائف والمذاهب والمرجعيات السياسية، وكذلك الاتحادات النقابية المستولدة قيصرياً.
ليست هوايتي الرثاء والندب والتحسر على الماضي، لكن الحقيقة تقضي بأن نعترف بأن الصحافة تواجه خطراً وجودياً. لقد غاب ما نسميه عادة الرأي العام. صار مجموعة من الآراء الخاصة، لكل فصيل رأيه، لكل زعيم طائفة فيه نصيب. وبالتالي فقد صار لكل طائفة صحيفتها. انقسم الرأي العام مرة، ثم مرتين، ثم مرات بعدد الطوائف في لبنان. والرأي العام هو الذي يحمي الصحافة ويعطيها المعنى ومبرر الصدور فإذا ما انقسم وتبعثر بين الطوائف فمن يحمي الصحافة والصحافيين.
لا صحافة حيث لا حياة سياسية. لا صحافة حيث وحدة المجتمع مشروخة أو ممزقة بالطائفية والمذهبية.
إننا نقاوم الموت. إننا نراهن على أحلامنا بالتغيير.
لكن الأجيال الجديدة لا تقرأ، مع جيلنا كانت قراءة الصحيفة واجباً ومتعة، تكتسب خصوصية العادة اليومية: تغسل وجهك، وتتناول إفطارك وأنت تحتضن صحيفتك.
وبين الدول والطوائف علاقات وتأثير متبادل بين الأقوى والأضعف. وليست الصحافة هي الأقوى، لا بدولتنا ذات النظام الفريد التي ترعاها دول الخارج، ولا بالمرتكزات الطائفية لنظامنا الفريد القوي علينا بطائفيته التي تكمن فيها الدول. والطائفية مصالح ومنافع ومواقع نفوذ في الداخل، ومواقع ارتكاز للخارج.
والصحافة ليست مجرد أقلام في أيدي مفكرين يبشرون بالغد الأفضل. بل هي مؤسسات مكلفة. والكلفة مدخل لأصحاب النفوذ وأصحاب المال.
وعليك أن تصارع الداخل والخارج إذا ما زيّنت لك غواية الحرية الاستقلال برأيك مسلحاً بإرادة شعبك ومبادئك التي اعتنقتها منذ يفاعتك.
وحرية التعبير مكفولة بالدستور. لكن السلطان أقوى من الدستور. الطائفية أقوى. ورأس المال أقوى، أما تبعية الطائفيات والمذهبيات للدول فأقوى من أقلامنا وأفكارنا وأحلامنا مجتمعين.
أما اليوم، فإن شبابنا لا يقرأون، وهذا هو الخطر الداهم على وجود الصحافة، وله تأثير مدمّر بأكثر من سيطرة رأس المال واحتكار سوق الإعلان.
لقد كان أحرى بالنقابة أن تحتفل باستشهاد الصحافة كمؤسسة ثقافية ـ فكرية، كمنابر للآراء المتعارضة، كمنارات في لبنان يشع ضياؤها في الوطن العربي الكبير.
لكن الحياة أقوى، والإيمان بالإنسان وقدرته على صنع الغد الأفضل أقوى، والأمل بأن نستعيد وطننا ودولته والحياة السياسية بصراعات المبادئ والأفكار والمطالب والأماني أقوى.
ولسوف نواصل إصدار صحفنا حتى آخر نفس، لعميق إيماننا بالحرية، الحرية التي هي أساس وجود هذا الوطن الصغير، فإن هي ذهبت ذهبنا.
وأختم بلمحة عن علاقتي أو بكلمة أدق صلتي بهذا الصرح. لقد عرفت عن المدرسة الأهلية قبل أن أدخل حرمها من تلميذة كانت تدرس فيها، وقد ساقتها المصادفات إلى مجلة «الحوادث» التي كنت قد ولجت بابها مبتدئاً، أحبو على طريق مهنة الصحافة.. وسمعت عن مربية الأجيال وداد قرطاس قبل أن ألتقيها من ثلاثة كبار كنت أتعلم منهم مهنة الكتابة بالسمع، وهم «البيك» منح الصلح، أطال الله عمره وأمده بالصحة، والراحلان شفيق الحوت ونبيل خوري.
لم يتفقوا يوماً على رأي في شخص أو مؤسسة أو حدث ولكنهم كانوا دائماً يتبارون في امتداح كفاءة السيدة قرطاس والإشادة بالمستوى المميز للمدرسة الأهلية وتفوّق طالباتها بعد تخرجهن منها.
ولقد حدث يوماً أن جاءت إحدى الطالبات إلى مكاتب «الحوادث»، وكانت تقع قريبا من هنا، خلف قصر هنري فرعون وغير بعيد عن القصر الجمهوري القديم الذي قدمه الشيخ بشارة الخوري للدولة، ثم تركه قبل أن يكمل ولايته الثانية لخصمه الرئيس كميل شمعون، الذي كان آخر من شغله.
كانت الطالبة فلسطينية يعيش أهلها في الأردن، وقد جاءت تحتج على معلومات رأتها خاطئة في مقالة لكاتب معروف نشرتها «الحوادث».
لم يكن في تلك الساعة من أسرة التحرير غيري، وقد استقبلتها مرتبكاً، لأنني لا أملك صلاحية الوعد بالتوضيح، فاكتفيت بأن وعدتها بأن أعرض الأمر على رئيس التحرير...
وجاءت تلك الطالبة مرة أخرى فأدخلتها على سليم اللوزي الذي أحالها على شفيق الحوت الذي كلفني بأن أهتم بالتوضيح، فكتبت نصاً مقتضباً لاقى منها قبولا... وحين قامت لتنصرف فاجأتني بسؤال: هل تعرف مديرتنا العظيمة السيدة وداد قرطاس؟ وقبل، هل تعرف شيئاً عن المدرسة الأهلية؟
ارتبكت فتأتأت بما يشبه الاعتذار وإذ بها تقول: تعال معي، سآخذك إلى المدرسة الأهلية، وسأرتب لك لقاء مع السيدة وداد... أنسيت ما يتقوّله الناس علينا باعتبارنا حالة فريدة.. انهم يقولون: «العسكريي والشوفريي وبنات الأهلية».
وكي تخرجني من ارتباكي أضافت تقول: وسنتناول الغداء في مطعم ممتاز على بعد خطوات من هنا، وهو يقع مقابل المدرسة.
بعد حين سأسعى كمحرر صحافي إلى السيدة وداد قرطاس لإجراء مقابلة معها... ولسوف تكون كريمة معي فتصحبني في جولة على مكاتب الإدارة والصفوف والملاعب، ولسوف تقف معي على شرفة مكتبها لتقول وهي تشير إلى محيطه: نحن في قلب بيروت الذي يعكس تاريخها كما يعكس روحها.. فها أنت ترى في الجوار القريب كنيس اليهود الذي ما زال على حاله، لم يهاجمه الناس هنا انتقاماً لأهلنا في فلسطين، وعلى مبعدة أمتار إلى يمينك تتجاور المساجد والكنائس، وتتداخل الأسواق التي يؤمها اللبنانيون جميعاً.
صمتت لحظة ثم أضافت وأنا أتابعها بصمت:
- إنها بيروت. هذه مدينة فريدة في بابها، إنها عاصمة عربية متميزة، إنها مدينة عالمية، لكن هويتها واضحة ومؤكدة. وهذا ما نحاول أن نكونه في المدرسة الأهلية.
بعد شهور قليلة سأعود إلى المدرسة الأهلية والسيدة وداد لأجري معها حواراً عن المدرسة الأهلية ودورها، وسيُسمح لي بالدخول إلى بعض الصفوف والتعرف إلى بعض المدرّسات والطالـبات وأحلامهن في المستقبل.
ولقد عدت إلى هذه المدرسة والى سيدتها مراراً بعدما قرأت عن تاريخها وعرفت عن دورها المميز في إعداد أجيال أعظم أهلية وأكثر وعياً هن بين صبايانا المؤهلات للإسهام في صنع مستقبل عربي أفضل. وأذكر أنني التقيتها بعد جولات عدة من مسلسل الحرب - الحروب الأهلية العربية - الدولية في لبنان وعليه، فقالت من على شرفتها وهي تشير إلى الكنيس اليهودي: لقد رحلوا جميعاً.. بالكاد بقيت أسرة أو اثنتان، ولقد دمرت هذه المنطقة وبيوتها، ونهب كل ما فيها، لكن أحداً لم يفكر بنسف الكنيس، كما أن أحداً لم يعترض على ترميمه، بل شارك الناس في حمايته توكيداً لبراءتهم من العنصرية واحترامهم للاختلاف في الدين.
إنني إقدر عالي التقدير صمود هذه المؤسسة ناشرة النور في قلب بيروت ورفض الانتقال إلى موقع آخر، كتعبير عن الإيمان بعبقرية المكان، كما يقول الكتيّب الخاص بالأهلية.
وإنه لأمر مفرح أن نشهد هذا التجديد للمباني وإضافة مبان جديدة لمزيد من الطلبة سيأتون طلباً لنجاح مؤكد ليس في الدراسة فحسب بل في حياتهم العملية المقبلة... وواضح أن المديرة رضا عياش تمشي على نهج السلف الصالح فتكمل ما باشره الرواد، بمعاونة هيئة التدريس من صنّاع النجاح.
إن النجاح المؤكد لهذه المؤسسة العريقة يؤكد صدق الحدس بالإيمان الذي دفع بكبار من العرب بينهم عائلات لبنانية وسورية وفلسطينية ومصرية وعراقية، إضافة إلى المهاجر، لأن يتبرعوا لقيامها.
وأختم بطرفة: فلقد تنادينا بعد مجزرة قانا التي نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الأهالي في تلك البلدة الجنوبية الوادعة، لدعم الصمود عبر معرض تشكيلي كبير واحتفالات يقدمها بعض أهل الفن تكريماً للشهداء وتأميناً لرصيد مادي نقدمه لأسرهم.
عشية اليوم السابق على الافتتاح ذهبت إلى مسرح المدينة حيث مقر شريكتنا في الإعداد للاحتفال السيدة نضال الأشقر، فوجدتها قد أقفلت الشارع، وأمسكت بمكنسة والى جانبها من يسكب الماء من سطول وهي تشطف الطريق يعاونها بعض المتطوعين.
خلعت حذائي وشاركت فصاحت بي ضاحكة: يبدو أنك مثلي من طلاب المدرسة الأهلية.
لعلنا نحتاج إلى بضعة آلاف من زميلات نضال الأشقر، خريجات الأهلية لكي نشطف البلاد جميعاً من أهل النظام الطوائفي الذي يقتلنا ألف مرة في اليوم.