طلال سلمان
بمصادفة قدرية توالت «الانتخابات الرئاسية» فى خمس «جمهوريات» عربية، بينها ما حسمت النتائج فيها آليا، والباقى قيد الإنجاز كحالة مصر ولبنان.
ففى الجزائر تم التجديد، لمرة رابعة، للرئيس المقعد عبدالعزيز بوتفليقة، الذى ذهب إلى الاقتراع على كرسى متحرك يدفعه بعض الحرس، ثم ساعده بعض آخر فى ملء استمارة انتخابه نفسه، وتولى بعض ثالث «ترجمة» تمتمات شكره الناخبين إلى كلمات مفهومة.
أما فى سوريا التى تعاظم عدد المرشحين فكاد يبلغ العشرين ثم تناقص إلى ثلاثة فقط فليس من يجادل فى أن «الرئيس» سينتخب لولاية ثالثة، وهذه المرة بلا اللجوء إلى الاستفتاء المعلنة نتيجته مسبقا..
وأما فى العراق حيث رئيس الدولة «مام جلال» الطالبانى مصاب بمرض سيمنعه من ممارسة صلاحياته المحدودة أصلا، فإن رئيس الوزراء الذى يكاد يختصر حكم ما تبقى من العراق بشخصه نورى المالكى، فقد بشر العراقيين بأن لوائحه ستفوز بأكثرية ساحقة حتى من قبل إعلان النتائج الرسمية التى ستتأخر نحوا من شهر.. بينما مسعود بارزانى يجدد لنفسه رئاسة إقليم كردستان، مرة بعد أخرى، من دون الرجوع إلى بغداد.
أما فى لبنان فقد تعذر على المجلس النيابى انتخاب رئيس جديد، فى دورتين سابقتين، وسيتعذر ذلك مرة ثالثة طالما تعذر تحقيق توافق (حتى نتجنب القول بالتزكية)، مما يوحى بأن الرئيس العتيد لن يهل على اللبنانيين إلا بعد شهور تاركا «لفخامة الفراغ» أن يملأ مقعد الرئاسة إلى أمد غير معلوم. وللمعلومات: فليست هذه أول مرة يفرغ فيها منصب رئيس الدولة فى لبنان... فقد حدث ذلك مرتين من قبل، الأولى فى أواخر سبتمبر 1988، وقد امتدت لأكثر من سنة، والثانية امتدت من أواخر سبتمبر 2007 وحتى 25 مايو من العام 2008، وها هو لبنان مهدد بفراغ فى رأس السلطة لمرة ثالثة لا يعرف إلا الله مداها.
وأما فى مصر فإن الانتخابات الرئاسية التى ستجرى بعد بضعة أسابيع فسوف ترفع إلى السدة رئيسا ثالثا للدولة (ويمكن اعتباره رابعا إذا احتسبنا المكلف الآن بشئون الرئاسة القاضى عدلى منصور) خلال ثلاث سنوات: مبارك، ثم المجلس العسكرى، ثم الرئيس الإخوانى الدكتور محمد مرسى..)
يمكن للأعداء والخصوم أن يلخصوا هذا الوضع الغريب بالقول: فى الجزائر يحكم من يمنعه مرضه من التحرك، وفى سوريا يكاد الدم أن يكون قاعدة الحكم، وفى العراق الانقسام، وفى لبنان الفراغ، وفى مصر الجيش، ولو أن المشير عبدالفتاح السيسى قد استقال من موقعه العسكرى ليتقدم للانتخابات... فالرتبة تبقى من حق صاحبها حتى لو صار مدنيا، فكيف وهو قد استقال قبل فترة وجيزة، مقدما التبرير البديهى: أريد أن آتى نتيجة صندوقة الاقتراع وليس تعبيرا عن الحب الشعبى الجارف للجيش.
●●●
فى كل حال، فكل دولة تذهب فى اتجاه، وكل «عهد جديد» عليه أن يبدأ من الصفر. لا قطيعة ولا تصادم ولا تلاق ولا تقارب بين الأنظمة «الجديدة»، وحتى «القديمة» منها.. مباشرة على الأقل.
المفارقة أن الملوك والسلاطين والأمراء من رؤساء الدول العربية فى الجزيرة والخليج، فضلا عن المغرب، يعرفون بعضهم البعض، يتبادلون الكراهية وإن اظهروا الود، لكنهم يحتمون بالاتحاد خوفا من الضياع.
أما الرؤساء فهم الأكثر قلقا، كأنما «الربيع العربى» لا يطارد الملوك والأمراء والشيوخ وإنما يقصر اهتمامه على رؤساء الجمهورية المنتخبين ـ غالبا ـ بتزكية الاستفتاء الذى لا يحتاج إلى ناخبين، ويكاد يماثل «البيعة» التى كانت تعطى ـ طوعا!! ـ للخلفاء والسلاطين..
لكأنما الجمهوريات هى وحدها المهددة بالديمقراطية، خصوصا إذا كانت «الجمهورية» نفطية كحال الجزائر والعراق..
..حتى «الرئيس المدنى» فى هذه الجمهوريات يعطى لنفسه رتبة عسكرية عليا، أو ينظر إليه كعسكرى بسبب من صلاحياته المطلقة التى تتخطى صلاحيات السلاطين.
منذ ستين سنة تقريبا، تحكم الجيوش معظم «الجمهوريات» العربية، بدءا بسوريا 1949، مرورا بمصر 1952، وبعدها العراق 1956، وصولا إلى ليبيا 1969، فالسودان 1969، ثم تونس (قبل انتفاضة البوعزيزى فى خريف 2010)، فالجزائر (بعد ثلاث سنوات من انتصار الثورة العظيمة، وقيام الجمهورية سنة 1962 بعد إخراج الاستعمار الفرنسى)، واليمن (1962) وحتى اليوم مع فترات قصيرة من الحكم المدنى.
لكأن الجيش هو صانع الأقدار فى الجمهوريات العربية.. وحتى لبنان الذى يعتبر نظامه استثنائيا وفريدا فى بابه وفى تركيبته الطائفية فإن الرئيسين الأخيرين للجمهورية انتقلا من موقع قيادة الجيش إلى الرئاسة الأولى، بأصوات الخارج الذى يصير فى مثل هذه الحالات داخلا.
ليس أسهل من تبديل الملابس العسكرية بالبدلات المدنية، لكن الحكم يبقى لصاحب الأمر..
●●●
النموذج الدائم للحكم فى الأقطار العربية هو «الملكية» حتى لو تمت تسميتها «جمهورية»، والانتخابات فى الغالب الأعم أشبه بالبيعة، وما أكثر المرات التى تمت فيها مبايعة الخليفة بالسيف مشهرا على الطامع فى القفز إلى المنصب الفخم (كما فى حكاية يزيد بن معاوية مع عمرو بن العاص بعد وفاة معاوية وغيرها كثير..)
ومعروف أن الملك لا يخرج من القصر إلا إذا مات أو خلعه إخوانه (كما جرى مع الملك سعود، أو حاكم قطر الأسبق الشيخ حمد مع أبيه الشيخ خليفة..)
ثم إن الملوك والأمراء والسلاطين يعرفون بعضهم البعض وتجمع بينهم غالبا روابط النسب أو المصاهرة، وهذا لا يعنى أن علاقاتهم الشخصية تخلو من التحاسد بل التباغض والكراهية أحيانا، لكنهم يحتمون بالاتحاد خوفا من الضياع إذا ما تفرقوا... وقد يتآمر بعضهم مع الأبناء الطامحين على الآباء الذين يطيلون مكوثهم أكثر مما يطيق ولى العهد أو بعض إخوانه..
●●●
فى أى حال فالتغييرات التى توالت فى قمة السلطة فى بعض البلاد العربية (مصر، ليبيا، تونس) لم تحدث حتى الساعة تغييرا جديا فى العلاقات العربية ــ العربية. فكل من القادة الجدد يذهب فى اتجاه: بينما مصر تخلع الرئيس الإخوانى فان الإخوان فى تونس مكون أساسى فى السلطة الجديدة التى جاءت بها انتفاضة البوعزيزى (وكذلك يحاول الإخوان التسلل إلى السلطة فى ليبيا، وسط الفوضى العارمة، ولو كشريك مع سائر الثوار الذين لا هوية محددة لهم). وحتى إشعار آخر فإن من يحكم فى الجزائر هو الجيش من خلف الرئيس الذى أعجزه المرض ومع ذلك فقد بقى أو أبقى منعا لوصول غيره.. ومن يحكم فى سوريا هم العسكريون، ولو بالدم، حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا. وفى لبنان سيحكم الفراغ حتى تتفاهم دول الكون، وبالذات الأقوى نفوذا، وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية وضمنها السعودية من جهة وإيران وضمنها سوريا من جهة أخرى، حتى تحصل معجزة التوافق...
وهى قد تحصل فى يوم، فى شهر، فى سنة، والله اعلم.
تعيش الديمقراطية العربية..
رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية